اختمرت بذرة المدرسة الوضعية في الفلسفة خلال القرن التاسع عشر، الذي ساد فيه الاتجاه التجريبي فنشأت في ظله، ولذلك شنّت هجومًا عنيفًا على الفلسفة بالتهم ومواضيعها الميتافيزيقية، ولم تكتف برمي الميتافيزيقا الفلسفية بالتهم التي يوجهها إليها أنصار المذهب التجريبي عادة، فلم تقتصر على القول بأن قضايا الفلسفة غير مجدية في الحياة العملية ولا يمكن إثباتها بالأسلوب العلمي، بل أخذ الوضعيون يؤكدون أنها ليست قضايا في العرف المنطقي بالرغم من اكتسابها شكل القضية في تركيبها اللفظي، لأنها لا تحمل معنى إطلاقًا، وإنما هي كلام فارغ ولغو من القول، وما دامت كذلك فلا يمكن أن تكون موضوعًا للبحث مهما كان لونه، لأن الكلام المفهوم هو الجدير بالبحث دون اللغو الفارغ والألفاظ الخاوية.
أما لماذا كانت القضايا كلامًا فارغًا لا معنى له، فهذا يتوقف على المقياس الذي وضعته المدرسة الوضعية للكلام المفهوم، فهي تقدر أن القضية لا تصبح كلامًا مفهومًا، وبالتالي قضية مكتملة في العرف المنطقي، إلا إذا كانت صورة العالم تختلف في حال صدق القضية عنها في حال كذبها، فإذا قلت مثلاً (البرد يشتد في الشتاء) تجد أن العالم الواقعي له صورة معينة ومعطيات حسية خاصة في حال صدق هذا الكلام، وصورة ومعطيات أخرى في حال كذبه، ولأجل هذا كنا نستطيع أن نصف الظروف الواقعية التي نعرف فيها صدق الكلام أو كذبه ما دام هناك فرق في العالم الواقعي بين أن تصدق القضية وبين أن تكذب.
ولكن خذ إليك العبارة الفلسفية التي تقول (إن لكل شيء جوهرًا غير معطياته الحسية. فللتفاحة مثلًا جوهر هو التفاحة في ذاتها فوق ما نحسه منها بالبصر واللمس والذوق) فإنك لن تجد فرقًا في الواقع الخارجي بين أن تصدق هذه العبارة أو تكذب بدليل أنك إذا تصورت التفاحة في حال وجود جوهر لها غير ما تدركه منها بحواسك ثم تصورتها في حال عدم وجود هذا الجوهر لم تر فرقًا في الصورتين، لأنك سوف لن تجد في كلتا الصورتين إلا المعطيات الحسية من اللون والرائحة والنعومة... وما دمنا لم نجد في الصورة التي رسمناها لحال الصدق شيئًا يميزها من الصورة التي رسمناها لحال الكذب، فالعبارة الفلسفية المذكورة كلام بدون معنى لأنه لا يفيد خبرًا عن العالم . وكذلك الأمر في كل القضايا الفلسفية التي تعالج موضوعات ميتافيزيقية فإنها ليست كلامًا مفهومًا لعدم توفر الشرط الأساسي للكلام المفهوم فيها وهو إمكان وصف الظروف التي يعرف فيها صدق القضية أو كذبها، ولذلك لا يصح أن توصف القضية الفلسفية بصدق أو كذب لأن الصدق والكذب من صفات الكلام المفهوم، والقضية الفلسفية لا معنى لها لكي تصدق أو تكذب.
ويمكننا تلخيص النعوت التي تضفيها المدرسة الوضعية على القضايا الفلسفية كما يلي:
1 - لا يمكن إثبات القضية الفلسفية لأنها تعالج موضوعات خارجة عن حدود التجربة والخبرة الإنسانية.
2 - ولا يمكن أن نصف الظروف التي إن صحت، كانت القضية صادقة وإلا فهي كاذبة. إذ لا فرق في صورة الواقع بين أن تكذب القضية الفلسفية أو تصدق.
3 - وهي لذلك قضية لا معنى لها، إذ لا تخبر عن العالم شيئًا.
4 - وعلى هذا الأساس لا يصح أن توصف بصدق أو كذب.
ولنأخذ الصفة الأولى، وهي أن القضية الفلسفية لا يمكن إثباتها فإنها تكرار لما يردده أنصار المذهب التجريبي عمومًا، فإنهم يؤمنون بأن التجربة هي المصدر الأساسي والأداة العليا للمعرفة وهي لا تستطيع أن تمارس عملها على المسرح الفلسفي لأن موضوعات الفلسفة ميتافيزيقية لا تخضع لأي لون علمي من ألوان التجربة، ونحن إذا رفضنا المذهب التجريبي وأثبتنا وجود معارف قبلية في صميم العقل البشري يرتكز عليها الكيان العلمي في مختلف حقول التجربة نستطيع أن نطمئن إلى إمكانات الفكر الإنساني وقدرته على درس القضايا الفلسفية وبحثها في ضوء تلك المعارف القبلية على طريقة الاستقراء والهبوط من العام إلى الخاص.
وأما الصفة الثانية: وهي أنّا لا نستطيع أن نصف الظروف التي إن صحت كانت القضية صادقة وإلا فهي كاذبة، فلا تزال بحاجة إلى شيء من التوضيح. فما هي هذه الظروف الواقعية أو المعطيات الحسية التي يرتبط صدق القضية بها، وهل تعتبر الوضعية من شرط القضية أن يكون مدلولها بالذات معطى حسيًّا كما في قولنا (البرد يشتد في الشتاء والمطر يهطل في ذلك الفصل) أو تكتفي بأن يكون للقضية معطيات حسية ولو بصورة غير مباشرة، فإن كانت الوضعية تلغي كل قضية ما لم يكن مدلولها معطى حسيًّا وظرفًا واقعيًّا يخضع للتجربة فهي بذلك لا تسقط القضايا الفلسفية فحسب. بل تشجب أيضًا أكثر القضايا العلمية التي لا تعبر عن معطى حسي وإنما تعبر عن قانون مستنتج من المعطيات الحسية كقانون الجاذبية. فنحن نحس بسقوط القلم عن الطاولة إلى الأرض ولا نحس بجاذبية الأرض. فسقوط القلم معطى حسي مرتبط بالمضمون العلمي لقانون الجاذبية وليس للقانون عطاء حسي مباشر. وأما إذا اكتفت الوضعية بالمعطى الحسي غير المباشر فالقضايا الفلسفية لها معطيات حسية غير مباشرة كعدة من القضايا العلمية تمامًا أي توجد هناك معطيات حسية وظروف واقعية ترتبط بالقضية الفلسفية، فإن صحت كانت القضية صادقة وإلا فهي كاذبة.
خذ إليك مثلاً القضية الفلسفية القائلة بوجود علة أولى للعالم، فإن محتوى هذه القضية وإن لم يكن له عطاء حسي مباشر، غير أن الفيلسوف يمكنه أن يصل إليه عن طريق المعطيات الحسية التي لا يمكن تفسيرها عقليًّا إلا عن طريق العلة الأولى، وهناك شيء واحد يمكن أن تقوله الوضعية في هذا المجال، وهو أن استنتاج المضمون الفكري للقضية الفلسفية من المعطيات الحسية، لا يقوم على أساس تجريبي وإنما يقوم على أسس عقلية، بمعنى أن المعارف العقلية هي التي تحتم تفسير المعطيات الحسية بافتراض علة أولى، لا أن التجربة تبرهن على استحالة وجود هذه المعطيات بدون العلة الأولى، وما لم تبرهن التجربة على ذلك لا يمكن أن تعتبر تلك المعطيات عطاء للقضية الفلسفية ولو بصورة غير مباشرة.
وهذا القول ليس إلا تكرارًا من جديد للمذهب التجريبي. وما دمنا قد عرفنا أن استنتاج المفاهيم العلمية العامة من المعطيات الحسية مدين لمعارف عقلية قبلية، فلا جناح على القضية الفلسفية إذا ارتبطت مع معطياتها الحسية بروابط عقلية وفي ضوء معارف قبلية.
وإلى هنا لم نجد في الوضعية شيئًا جديدًا غير معطيات المذهب التجريبي ومفاهيمه عن الميتافيزيقا الفلسفية. غير أن الصفة الثالثة تبدو لنا شيئًا جديدًا لأن الوضعية تقرر فيها أن القضية الفلسفية لا معنى لها إطلاقًا، ولا تعتبر قضية بل هي شبه قضية.
ويمكننا القول بأن هذا الاتهام هو أشد ضربة وجهت إلى الفلسفة من المدارس الفلسفية للمذهب التجريبي، فلنفحص محتواه باهتمام. ولكي يتاح لنا ذلك يجب أن نعرف بالضبط ماذا تريد الوضعية بكلمة المعنى في قولنا إن القضية الفلسفية لا معنى لها وإن أمكن تفسيرها في قواميس اللغة؟
ويجيب على ذلك الأستاذ آير - إمام الوضعية المنطقية الحديثة في إنكلترا - بأن كلمة معنى في رأي الوضعية تدل على المعنى الذي يمكن التثبت من صوابه أو خطئه في حدود الخبرة الحسية، ونظرًا إلى أن القضية الفلسفية لا يمكن فيها ذلك فهي قضية بدون معنى.
وفي هذا الضوء تصبح العبارة القائلة (القضية الفلسفية لا معنى لها) معادلة تمامًا لقولنا (محتوى القضية الفلسفية لا يخضع للتجربة لأنه يتصل بما وراء الطبيعة) وبذلك تكون الوضعية قد قررت حقيقة لا شك فيها ولا جدال، وهي أن مواضيع الميتافيزيقا الفلسفية ليست تجريبية ولم تأت بشيء جديد إلا تطوير كلمة المعنى ودمج التجربة فيها، وتجريد القضية الفلسفية عن المعنى في ضوء هذا التطوير للكلمة لا يتناقض مع التسليم بأنها ذات معنى في استعمال آخر للكلمة لا تدمج فيه التجربة في المعنى.
ولا أدري ماذا يقول الأستاذ آير وأمثاله من الوضعيين عن القضايا التي تتصل بعالم الطبيعة. ولا يملك الإنسان القدرة على التثبت من صوابها أو خطئها بالتجربة. كما إذا قلنا (إن الوجه الآخر للقمر الذي لا يقابل الأرض زاخر بالجبال والوديان) فإننا لا نملك وقد لا يتاح لنا في المستقبل أن نملك الإمكانات التجريبية لاستكشاف صدق هذه القضية أو كذبها، بالرغم من أنها تتحدث عن الطبيعة، فهل يمكن أن تعتبر هذه القضية خاوية لا معنى لها مع أننا نعلم جميعًا أن العلم كثيرًا ما يطرح قضايا من هذا القبيل على صعيد البحث قبل أن يملك التجربة الحاسمة بصددها، ويظل يبحث عن ضوء ليسلطه عليها حتى يجده في نهاية المطاف أو يعجز عن الظفر به، فلماذا كل هذا الجهد العلمي لو كانت كل قضية لا تحمل بيدها دليل صدقها أو كذبها من التجربة خواء ولغوًا من القول؟
وتحاول الوضعية في هذا المجال أن تستدرك، فهي تقول إن المهم هو الإمكان المنطقي لا الإمكان الفعلي، فكل قضية كان ممكنًا من الوجهة النظرية الحصول على تجربة هادية بشأنها، فهي ذات معنى وجديرة بالبحث وإن لم تملك هذه التجربة فعلاً.
ونحن نرى أن هذه المحاولة، أن الوضعية قد استعارت مفهومًا ميتافيزيقيًّا لتكميل بنائها المذهبي الذي شادته لنسف الميتافيزيقا، وذلك المفهوم هو الإمكان المنطقي الذي ميزته عن الإمكان الفعلي، وإلا فما هو المعطى الحسي للإمكان المنطقي؟ تقول الوضعية إن التجربة ما دامت غير ممكنة في الواقع، فماذا يبقى للإمكان النظري من معنى غير مفهومه الميتافيزيقي الذي لا أثر له على صورة الواقع الخارجي ولا تختلف المعطيات الحسية تبعًا له، أفلم يصبح مقياس الوضعية للكلام المفهوم ميتافيزيقيًّا في نهاية الشوط، وبالتالي كلامًا غير مفهوم في رأيها؟
ولنترك الأستاذ آير، ولنأخذ كلمة المعنى بمدلولها المتعارف دون أن ندمج فيه التجربة، فهل نستطيع أن نحكم على القضية الفلسفية بأنها غير ذات معنى؟ كلا طبعًا، فإن المعنى هو ما يعكسه اللفظ في الذهن من صور، والقضية الفلسفية تعكس في أذهان أنصارها، وخصومها على السواء صورًا من هذا القبيل. وما دامت هناك صورة تقذفها القضية الفلسفية إلى أفكارها فهناك مجال للصدق والكذب وبالتالي هناك قضية كاملة جديرة بهذا الاسم في العرف المنطقي، فإن الصورة التي تقذفها القضية الفلسفية إلى ذهننا إن كانت تطابق شيئًا موضوعيًّا خارج حدود الذهن واللفظ فالقضية صادقة وإلا فهي كاذبة. فالصدق والكذب وبالتالي الطابع المنطقي للقضية - ليسا من معطيات التجربة لنقول عن القضية التي لا تخضع للتجربة إنها لا توصف بصدق أو كذب، وإنما هما تعبيران بشكل إيجابي أو سلبي عن التطابق بين صورة القضية في الذهن وبين أي شيء موضوعي ثابت خارج حدود الذهن واللفظ.
السيد جعفر مرتضى
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
محمود حيدر
الشيخ مرتضى الباشا
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان