المفهوم الأخلاقي – السياسي:
للمدينة الفاضلة عند الفارابي ما يضاهيها من المدن. وفي هذا بيان الوجه الآخر للحكمة التي أُنشئت مدينته عليها. فبيان حقائق المدن المبنيَّة على الفساد والجهل والفسق وما إليها تسطع أنجُم الفضائل في المدينة الفاضلة. وهكذا تُضادُّ المدينة الفاضلة مدن غير فاضلة، أجمَلَها الفارابي في أربعة أقسام كبيرة وهي:
أولاً: المدينة الجاهلة التي لم يعرف أهلها السعادة الحقيقيّة، واعتقدوا أنَّ غاية الحياة في سلامة البدن واليسار والتمتُّع باللذَّات، والانقياد إلى الشَّهوات، وأن يكون الإنسان مُكرَّماً مُعظَّماً.
ثانياً: المدينة الفاسقة التي عرف أهلها السعادة والله، ولكن جاءت أفعالهم أفعال أهل المدن الجاهلة.
ثالثاً: المدينة المبدَّلة هي التي كانت آراء أهلها آراء المدينة الفاضلة ولكن تبدَّلت في ما بعد وأصبحت آراء فاسدة.
رابعاً: المدينة الضَّالَّة هي التي يعتقد أهلها آراء فاسدة في الله والعقل الفعَّال، ويكون رئيسها ممن أوهم أنَّه يوحى إليه، وهو ليس كذلك.
ولما كانت المدينة الجاهلة مدينة مُشرَّعة الأبواب والمنافذ على التّنوُّع والتلوُّن، حيثُ الجهل بالحقائق تتعدَّد مناحيه، فرَّع الفارابي المدينة الجاهلة إلى جماعة مدن، منها:
أ – المدينة الضروريَّة، هي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح، والتَّعاون على استفادتها.
ب – المدينة البدَّالة، هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار بشيء آخر، لكن على أنَّ اليسار هو الغاية في الحياة.
ج – مدينة الخِسَّة والسُّقوط، هي التي قصد أهلها التمتُّع باللَّذة من المأكول والمشروب والمنكوح، وبالجملة اللَّذة من المحسوس والتخيُّل وإيثار الهزل واللَّعب بكل وجه ومن كل نحو.
د – مدينة الكرامة، وهي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرَّمين، ممدوحين مشهورين بين الأُمم، ممجَّدين مُعظَّمين بالقول والفعل، ذوي فخامة وبهاء، إما عند غيرهم وإما بعضهم عند بعض، كلَّ إنسان على مقدار محبَّته لذلك، أو مقدار ما أمكنه بلوغه منه.
هـ – مدينة التغلُّب، وهي التي قصد أهلُها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدّهُم اللذَّة التي تنالهُم من الغلبة فقط.
و – المدينة الجماعيَّة، هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحراراً، يعمل كلُّ واحد منهم ما شاء، لا يمنع هواه في شيء أصلاً.[1]
وملوك الجاهليَّة – على رأي الفارابي – هم على عهد مدنها. أن يكون كل واحد منهم إنما يدبِّر المدينة التي هو مسلَّط عليها ليحصل هواه وميله. ولقد أراد بهذه الإشارة أنَّ المدن الجامعة هي تماماً كالنُّفوس الـمُفردة. وهذه المسائل التي يكشف عنها أبو نصر إنما ترمي إلى تعيين الإطار الأخلاقي للنفس الإنسانيَّة سواء في كونها الفردي الخاص أم في كونها الإجتماعي العام.
ومن هذا أمكن القول بجواز اعتبار المدينة وأضدادها، كالنفوس الإنسانيَّة الـمُفردة وأضدادها. وهو ما يتَّضح في التَّصريح عن مصير سكان هذه المدن. حيث يبيِّن الفارابي أن كل نفس أدركت الحقيقة أي علمت الأول والفيض، والعقول الثواني؛ والعقل الفعال. تكون قد اكتسبت الخلود. فإذا فعلت حسب هذه الآراء كانت من الأنفس الفاضلة ودخلت في السعادة. أما إذا جهلت هذه الحقيقة فيكون مصيرها الزوال والعدم. فأنفُس أهل المدن الجاهلة صائرة إلى الزَّوال، وأنفُس أهل المدن الفاسقة تخلُد في الشَّقاء، وأنفُس أهل المدن المبدَّلة تزول، غير أن من بُدِّل عليه الأمر وكان يعلم الحقيقة فنفسه تخلُد في الشَّقاء، وكذلك نفس من أوهم أنه ممن أوحى إليه؛ أما أهل المدن الضَّالة فمصيرها الزوال.
أما سعادة الأنفُس فتكون بتأمُّلها الحقائق الأزليَّة في العقل الفعَّال؛ فهي سعادة عقلية محضة. وفي رأي الفارابي، تتصل أنفُس كل طائفة من طبقات أهل المدن الفاضلة بعضها ببعض، وتصير كنفس واحدة. وكلما كثُرت الأنفُس المتشابهة واتصل بعضها ببعض زادت سعادتها. وكذلك الأمر بأنفُس أهل المدن الفاسقة؛ كلما أتت طائفة جديدة اتَّحدت بمن سبقها من الأنفُس، وأصبحت كنفس واحدة، وزاد شقاؤها. أما البدن فينحلُّ إلى عناصره ويدخل في تكوين أبدان أُخرى. فلا بعث لأجسادٍ عند الفارابي[2].
سنقع على واحد من المبادئ الأساسية في منهج الفارابي الفلسفي حين نلاحظ المنطق الداخلي الذي يجمع بين جملة أعماله. هذا المبدأ هو الربط حكمة والسياسة. فما نتبين في آراء أهل المدينة الفاضلة نجده في كتابه “فصول منتزعة” الذي يبحث في العلم المدني، ولذلك فهو ينتمي إلى تلك السلسلة التي صنَّفها الفارابي، وبحثت في ما ينبغي سلوكه في التدبير البشري في الأخلاق والمعاملات. مثل “المدينة الفاضلة” “السياسة المدنيَّة – الملقب بـ”مبادئ الموجودات”، “الملة”، و”تحصيل السعادة”.
يبيِّن ابن أبي أصيبعة (المتوفَّى سنة668 هـ -127م) “عيون الأنباء” فضلاً عن “طبقات الأُمم” لصاعد الأندلسي (المتوفَّى سنة462 هـ -1070م) أنَّ الفارابي كتب “المدينة الفاضلة” ببغداد وحمله إلى الشام في آخر عام 330 ه وتمَّمه بدمشق عام 331 ه وحرَّره، ثم نظر إلى النسخة بعد التحرير فأثبت فيها الأبواب، ثم سأله بعض الناس أن يجعل له فصولاً تدلُّ على قسمة معانيه فعمل الفصول بمصر في سنة 337 ه، وهي ستة فصول تسمَّى بـ”فصول المدني” أو “فصول منتزعة”[3].
يُرجِّح الباحثون أنَّ “المدينة الفاضلة” هي أحد أبرز مرتكزات فلسفة الفارابي. وسنجد أنَّ ما سبقها وما تلاها من مصنَّفات كانت استكمالاً لنظريَّته الفلسفيَّة – السياسيَّة في السياسة الفاضلة التي ستجتاز النظرة الأفلاطونيَّة لجهة إضفاء المضمون الديني الإسلامي على أُطروحة “المدينة الفاضلة”. وحسب وصف ابن خلدون للسياسة المدنية بأنَّها: تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمُقتضى الأخلاق والحكمة نكون وجدنا الوصف الـمُطابق الذي قصدته “المدينة الفاضلة”.
وثمَّة من يتساءل عن أنه إذا كانت “المدينة الفاضلة” هي نفسها “السياسة المدنية” و”فصول منتزعة” و”الملَّة” وسواها، فلماذا ألَّف الفارابي كل هذه المصنَّفات المتشابهة؟ يقول كثيرون ممن قرأوه إنه كأقرانه من الفلاسفة شاء لفلسفته أن تتوزَّع على عدد من الـمُصنَّفات لضرورات تتعلق بتفصيلها على النحو الذي يمنحها التكامل، بحيث لا يبقى أيٌّ من أحياز نظريته غامضاً غير مفهوم. لكن ثمَّة من المعلِّقين من يجزم بأنَّ الفروقات بين المصنَّفات وخصوصاً بين “المدينة الفاضلة” و”السياسة المدنيَّة” ليست عَرَضيَّة، ولا بد من أن يكون له غاية قصوى في إعادة تأليف كتابه ووسمه باسم آخر تاركاً أشياء ومضيفاً أُخرى[4].
أما ما يتصل بمنهج الفارابي في الجمع بين الحكمة العليا والسياسة (كما فعل في “المدينة الفاضلة” و”السياسة المدنية” و”فصول منتزعة”)، حيث عالج في الوقت نفسه العلم الإلهي ومبادئ الموجودات والعلم المدني وأصناف المدن، فله في ذلك غاية قصوى في معالجة القضايا الإلهية ضمن نطاق العلم المدني كما فعل أفلاطون قبله. وكما سيفعل فلاسفة وحكماء كثيرون بعده وأخصَّهم الحكيم الإلهي صدر الدين شيرازي في “الأسفار الأربعة” وبدا واضحاً في السفر الرابع من هذه الأسفار(بالحق في الخلق إلى الحق).
فالآراء الإلهية رغم أنها تقع ضمن الفروع النظرية من الفلسفة، لها علاقة مباشرة بحياة الإنسان المدنية وسعادته. وبما أن العلم المدني هو الذي يفحص عن أصناف الأفعال والسير الإراديَّة وعن الأخلاق والسجايا والشيم التي عنها تكون تلك الأفعال والسُّنَن، وعن الغايات التي لأجلها تفعل وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان فهو لذلك يبحث في كل ما من شأنه أن يكون له علاقة بسعادة الإنسان.
وهذا لا يعني أن العلم الديني، وهو علم عملي، ارفع مرتبة من العلم الإلهي أو الفلسفة النظرية. كل ما في الأمر أن العلم المدني يعني بالمبادئ الأوليَّة والنظريَّات الإلهيَّة لما لها من علاقة بسعادة الإنسان. فسعادة الإنسان القصوى وكماله يتوقفان ليس فقط على أفعاله بل، وهو الأهم على آرائه أيضاً. فليس إذاً من الصدفة أن يدعو الفارابي كتابه الثاني “مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة”، وهي الآراء التي يجب أن يعتقدها أهل المدينة حتى يصلوا إلى السعادة التي هي الكمال النظري[5].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الفارابي، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة ص 122-123.
[2] – المصدر نفسه – ص 124.
[3] – راجع كتاب الفارابي “فصول منتزعة” – تحقيق: عفيف فوزي ومتري النجار – ط2- دار المشرق- بيروت 1982 – ص 11-12.
[4] – المصدر نفسه- ص 13.
[5] – الفارابي- السياسة المدنية – تحقيق: فوزي متري النجار – دار المشرق- بيروت 2014- ص 15.
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
الشيخ باقر القرشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب