العدالة أشرف الفضائل وأفضلها، إنها كل الفضائل أو ما يلزمها، كما أن الجور كل الرذائل أو ما يوجبها، لأنها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع الصفات والأفعال، ورد الزائد والناقص إلى الوسط، وانكسار سورة التخالف بين القوى المتعادية، بحيث يمتزج الكل وتتحقق بينها مناسبة واتحاد تحدث في النفس فضيلة واحدة تقتضي حصول فعل متوسط بين أفعالها المتخالفة، وذلك كما نحصل الامتزاج والوحدة بين الأشياء المتخالفة صورة وحدانية يصدر عنها فعل متوسط بين أفعالها المتخالفة فجميع الفضائل مترتبة على العدالة، ولذا قال أفلاطون الإلهي: (العدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بها كل واحد من أجزاء نفسه، ويستضيء بعضها من بعض، فتنتهض النفس حينئذ لفعلها الخاص على أفضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدعها سبحانه).
ومن خواص العدالة وفضيلتها أنها أقرب الصفات إلى الوحدة، وشأنها إخراج الواحد من الكثرات، والتأليف بين المتباينات، والتسوية بين المختلفات، ورد الأشياء من القلة والكثرة والنقصان والزيادة إلى التوسط الذي هو الوحدة، فتصير المتخالفات في هذه المرتبة متحدة نوع اتحاد، وفي غيرها توجد أطراف متخالفة متكاثرة، ولا ريب في أن الوحدة أشرف من الكثرة، وكلما كان الشيء أقرب إليها يكون أفضل وأكمل وأبقى وأدوم، ومن تطرق البطلان والفساد أبعد، فالمتخالفات إذا حصل بينها مناسبة واتحاد وحصلت منها هيئة وحدانية صارت أكمل مما كان، ولذا قيل: كمال كل صفة أن يقارب ضدها، وكما كل شخص أن يتصف بالصفات المتقابلة بجعلها متناسبة متسالمة، وتأثير الأشعار الموزونة والنغمات والإيقاعات المتناسبة، وجذب الصور الجميلة للنفوس، إنما هو لوحدة التناسب، ونسبة المساواة في صناعة الموسيقى أو غيرها أشرف النسب لقربها إلى الوحدة، وغيرها من النسب يرجع إليها.
وبالجملة: اختلاف الأشياء في الكمال والنقص بحسب اختلافها في الوحدة والكثرة، فأشرف الموجودات هو الواحد الحقيقي الذي هو موجد الكل ومبدؤه، ويفيض نور الوحدة على كل موجود بقدر استعداده كما يفيض عليه نور الوجود كذلك، فكل وحدة من الوحدات جوهرية كانت أو خلقية أو فعلية أو عددية أو مزاجية، فهو ظل من وحدته الحقة، وكلما كان أقرب إليها يكون أشرف وجودًا، ولولا الاعتدال والوحدة العرضية التي هي ظل الوحدة الحقيقية لم تتمّ دائرة الوجود، لأن تولد المواليد من العناصر الأربعة يتوقف على حصول الاتحاد والاعتدال، وتعلق النفس الربانية بالبدن إنما هو لحصول نسبة الاعتدال، ولذا يزول تعلقها به بزوالها، بل النفس عاشقة لتلك النسبة الشريفة أينما وجدت.
والتحقيق أنها معنى وحداني يختلف باختلاف محالها، فهي في الأجزاء العنصرية الممتزجة اعتدال مزاجي، وفي الأعضاء حسن ظاهري، وفي الكلام فصاحة، وفي الملكات النفسية عدالة، وفي الحركات غنج ودلال، وفي النغمات أبعاد شريفة لذيذة والنفس عاشقة لهذا المعنى في أي مظهر ظهر، وبأي صورة تجلى، وبأي لباس تلبس.
فإني أحب الحسن حيث وجدته، وللحسن في وجه الملاح مواقع والكثرة والقلة والنقصان والزيادة تفسد الأشياء إذا لم تكن بينها مناسبة يحفظ عليها الاعتدال والوحدة بوجد ما، وفي هذا المقام تفوح نفحات قدسية تهتز بها نفوس أهل الجذبة والشوق، ويتعطر منها مشام أصحاب التأله والذوق، فتعرض لها إن كنت أهلاً لذلك.
وإذا عرفت شرف العدالة وإيجابها للعمل بالمساواة، ورد كل ناقص وزائد إلى الوسط، فاعلم: أنها إما متعلقة بالأخلاق والأفعال، أو بالكرامات وقسمة الأموال، أو بالمعاملات والمعارضات، أو بالأحكام والسياسات.
والعادل في كل واحد من هذه الأمور ما يحدث التساوي فيه برد الإفراط والتفريط إلى الوسط، ولا ريب في أنه مشروط بالعلم بطبيعة الوسط، حتى يمكن رد الطرفين إليه، وهذا العلم في غاية الصعوبة، ولا يتيسر إلا بالرجوع إلى ميزان معرف للأوساط في جميع الأشياء، وما هو إلا ميزان الشريعة الإلهية الصادرة عن منبع الوحدة الحقة الحقيقية، فإنها هي المعرفة للأوساط في جميع الأشياء على ما ينبغي، والمتضمنة لبيان تفاصيل جميع مراتب الحكمة العملية، فالعادل بالحقيقة يجب أن يكون حكيمًا عالـمًا بالنواميس الإلهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة.
وقد ذكر علماء الأخلاق أن العدول ثلاثة:
" الأول " العادل الأكبر، وهو الشريعة الإلهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة.
" الثاني " العادل الأوسط، وهو الحاكم العادل التابع للنواميس الإلهية والشريعة النبوية فإنه خليفة الشريعة في حفظ المساواة.
" الثالث " العادل الصامت، وهو الدينار لأنه يحفظ المساواة في المعاملات والمعاوضات.
بيان ذلك:
أن الإنسان مدني بالطبع فيحتاج بعض أفراده إلى بعض آخر، ولا يتم عيشهم إلا بالتعاون، فيحتاج الزارع إلى عمل التاجر وبالعكس والنجار إلى عمل الصباغ وبالعكس، وهكذا فتقع بينهم معاوضات، فلا بد من حفظ المساواة بينها دفعًا للتنازع والتشاجر، ولا يمكن حفظها بالأعمال لاختلافها بالزيادة والنقصان والقلة والكثرة وغير ذلك، وربما كان أدنى عمل مساويًا لعمل كثير كنظر المهندس، وتدبير صاحب الجيش، فإن نظرهما في لحظة واحدة بما ساوى عملاً كثيرًا لمن يعمل ويحارب، فحفظ المساواة بينها بالدينار والدرهم بأن تقوم بهما الأعمال والأشياء المختلفة، ليحصل الاعتدال والاستواء، ويتبين وجه الأخذ والإعطاء، وتصح المشاركات والمعاملات على نهج لا يتضمن إفراطًا ولا تفريطًا قيل: وقد أشير إلى العدول الثلاثة في الكتاب الإلهي بقوله سبحانه: ﴿ ... وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... ﴾ (سورة الحديد، الآية: 25)
فإن الكتاب إشارة إلى الشريعة، والميزان إلى آلة معرفة النسبة بين المختلفات ومنها الدينار، والحديد إلى سيف الحاكم العادل المقوم للناس على الوسط.
هذا والمقابل المعادل - أعني الجائر المبطل للتساوي أيضًا - إما جائر أعظم - وهو الخارج عن حكم الشريعة - ويسمى كافرًا - أو جائر أوسط - وهو من لا يطيع عدول الحكام في الأحكام - ويسمى طاغيًا وباغيًا - أو جائر أصغر - وهو من لا يقوم عني حكم الدينار، فيأخذ لنفسه أكثر من حقه ويعطي غيره أقل من حقه - ويسمى سارقا وخائنا.
السيد محمد حسين الطبطبائي
الفيض الكاشاني
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
محمود حيدر
الشيخ جعفر السبحاني
الشهيد مرتضى مطهري
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب