علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

بالإيحاء.. كان الوجود كلّه (1)

لا أشقَّ على الناظر في إلهيَّات الوجود من أن يختبر مسائلها على أرض المفاهيم. ولسوف تتضاعف مشقَّتُه إذ تجدُه أمام مسألة تتأبَّى على هندسات العقل القياسيِّ كمسألة الوحي. قضيَّة بهذه الفرادة المعرفيَّة، لا ينبغي لها – وتبعًا للضرورة العقلية – أن تمكث في معزل عن المشاغلات البديهية للعقل نفسه. الشيء نفسه يصح بطريقة عكسية: ليس من شأن ما يسمو فوق المتناهيات المرئية أن يصُدَّ عن اختبار ما يقع تحت مرمى النظر ومقاساته المنطقيَّة. ما نرانا نأخذ بهذه المعادلة إلَّا للافتراض بأنَّ ثمَّة ما يستحثُّ على بيان شهادة العقل على الوحي كإمكان ميتافيزيقي.

 

ولنا أن نقول إن فرضيَّة كهذه جائزة ومشروعة، ما دام كل شيء في عالم الظهور يكون مسبوقًا بموجودٍ هو علّةُ كشفِهِ وإظهاره. لعلَّنا في هذا بإزاء واحدة من المسلَّمات التي ابتنى عليها التفكير الميتافيزيقيُّ خطَطَهُ الكبرى لاستكشاف المطارح العصِيَّة في علم الوجود. وسيبدو جوهريًّا، بالنسبة إلى كلِّ تصوُّر عن الوحي، أن يمضي صاحب هذا التصور بعيداً في أفق الألوهيَّة، وأن يحدِّد خصائصها بدقَّة، عبر محمولات الروح، والعقل، والكلمة، والإيجاد، والوحدة، والذات. ففي هذه الحال سيكون في وسعِهِ أن يدرك هذه المحمولات بالفهم، وأن يحلِّلها بالفكر؛ بل أن يؤسِّس لها منطقًا ومنهجًا ونظريَّة معرفة.

 

ذاك يدل على أنَّ كلَّ أمر وحيانيٍّ يفكَّر فيه ويُنظر إليه بتعقُّل، هو أمرٌ عقليٌّ ولو لم يدخل في نطاق العقل الحاسب ونظامه الاستدلاليّ. ونميل إلى الاعتقاد أنَّ كلَّ قضيَّة تُقاربُ على قاعدة مفاهيميَّة، جدير بها أن تسمَّى  قضيَّة عقلانيَّة. فعندئذٍ تصير قضيَّة الوحي والألوهيَّة طبقًا للمقتضيات الآنفة الذكر، قضيَّة ذات طبيعة عقلانيَّة.

 

لو تدبَّرنا هذا المنفسح من التفكير بـ “الماوراء”، لَفَهِمنا أنَّ عالمًا موصولًا بالوحي هو عالمٌ لا يدنو منه زَلَلٌ ما دام كلُّ موجود لا يوجد إلَّا بعِلَّة موجِدة. لهذا سيقرِّر الحكماء أنْ لو نُزِع الوحيُ عن شيءٍ انعدم وجوده في الواقع؛ ما يعني أن لا فصل ولا قطيعة بين فعَّاليَّة الوحي وانتظام الأكوان، حتى ليصير جليًّا ألَّا توجد أشياء الوجود كلِّها، ناطقة وغير ناطقة، بمعزلٍ من عطاءات الوحي وتأييده.

 

ماهيَّة الوحي …كلمتُه الموجِدة

 

حين يدعونا الهمُّ الميتافيزيقيُّ إلى السؤال عن ماهيَّة الوحي، نرانا محمولين بالضرورة على تحرِّي الإجابة في الحقل الذي تكلَّم الوحي به عن نفسه. قصدُنا بهذا، أنَّ المتكلِّم الإلهي وحده من يعرب عن كُنهِ ماهيَّته وغاية مراده. فإنما وَحيُه القولي- بحسب المقصود – هو روحُه الذي من سرِّ أمره ولا يعلمه أحدٌ سواه. نجدنا مع الوحي بإزاء مكنون رحمانيٍّ له لسانه الخاصُّ وهوّيَّته المفارقة. وسيكون من الحريِّ بنا ألَّا نتعجَّل رأيًا به أو حكمًا عليه، إلَّا من خلال النظر إليه بعين النقص. وما علينا حالذاك إلا الصبر حتى يظهر أثرُه لكي نستدل من أثرِهِ عليه.

 

ما يعني أنَّ الفكر مهما بلغت فطنتُه، فلن يدرك سرّ هذا المكنون، لأنَّه من كُنْه الذات الأحديَّة وعلمِها الغيبيّ. وعليه، فإن إدراك هذا السرِّ لا يتأتَّى إلَّا باعتلان الأمر الوحيانيِّ من خَبَأِ الذات إلى عالم الأسماء. فالوحي في اعتلانه هو إظهار الأمر الرحمانيِّ بإيجاد الموجودات. وبفعله صارت هذه الموجودات وجودًا دالًّا على القول الآمر بما هو علَّةٌ مُظهِرةٌ للعالم. من أجل ذلك قيل إنَّ الفعل الإيحائي هو إلقاء قدسيٌّ دالٌّ على الأمر الإلهيِّ بالكلمة الموجِدة. قيل كذلك، إن الوحي قولٌ إيجاديٌّ جعليٌّ قاله الموجِدُ الجاعلُ، لا من مظنَّة فكرٍ، ولا من همسة حرفٍ، ولا من قبضة يد. فإنَّما هو إشارة خاطفةٌ دالَّةٌ على إلقاء علمٍ في إخفاء” كما يذهب ابن فارس. وفي مقام الاصطفاء النبوي يتأتَّى الإيحاء على نحو الخطاب الذي مبتدأه من سرِّ ومنتهاه إلى سر.. وأنَّه يفضي إلى معنى يخفى فهمُه على غير من قُصِدَ إفهامُه. أي أنَّ الوحيَ دالٌّ على إلقاء المعنى في النفس المصطفاة على وجه خفيِّ، إذ يجيء للموحَى إليه خَفيةً عن سائر الخلق.

 

المتكلِّمون وعلماء التفسير سيقولون، من بعد أن أضناهم وصفُه ونعتُه، إنَّ للوحي ثلاثَ خواصّ: الأولى: خاصّيَّة الخلق والتكوين. وهي خاصِّية تتَّخذ صيغة فعل الأمر البَدئي بإيجاد الموجود الأول الذي منه نشأت الموجودات كلُّها. والثانية: خاصّيَّة الصنع والتصوير، وهي مختصَّة بالكثرات الوجوديَّة حيث تمنح كل شيء من أجناسها وأنواعها ما يناسبه على التفصيل والتفريد. والثالثة: خاصّيَّة الاصطفاء والتعليم؛ وهي مخصوصة للأنبياء والرُّسل والأولياء.

 

في المواضع كلّها يبقى أمرُ الوحي هو نفسه. ذلك بأن كل فعل من أفعاله يجري مجرى الكلمة الموجِدة؛ سواء للشيء الأول الذي وُجدَ ولم يكن قبله شيء، أو لسائر الأشياء الَّلامتناهية في كثرتها واختلافها وتغايرها. وهذا دليل على سيريَّة الوحي وسريانه المستدام في ثنايا الموجودات المتجددة على غير انقطاع. وأمَّا كلمة الوحي في الأحوال جميعاً فإنما هي الكلمة الكاشفة عن نفسها، إما كشاهد على الواقع، أو كواقع مشهود عليه. وليس ذاك إلَّا لأنَّ الكلمة الآمرة “كن” هي تجلّي الوحي كفعل خلقٍ وإظهار. وبهذا الاعتبار لا يكون ثمَّة حاجة لإقامة الدليل على مصدر الكلمة ما دامت صدرت عن علَّة بيِّنة لا لَبْسَ فيها.

 

.. ولـمَّا كان الوحي خيرًا محضًا، وخيريَّته تشتمل على الوجود كلَّه، فلن يكون حاصِلُه زللًا ولا عدمًا؛ بل هو فعل القيوميَّة الإيحائيَّة التي بها صار للموجودات وجودٌ يتجدَّد. فالكلمة الإلهية الآمرة “كن” هي عين حقيقة الإيحاء. والله الذي أوجد الموجودات جميعًا بأمره وإرادته سيحفظها بالاعتناء والتدبير بوحي كلمته. وإذا كان من الصواب أن نقول: في البدء خلق الله السموات والأرض، فما ذاك إلَّا لأنَّ ابتداء العالم كان بالقول الآمر الذي به كلُّ الأشياء خُلقت، وبه كلُّ شيء كان، وبسواه لم يكن شيء ممَّا كان. فإذا ما فُهِمَ الوحيُ على هذا النحو، صحّ القول أنَّ تدبير الأشياء هو عين خلقها، وخلقها عين تدبيرها.

 

وللتبيين نضيف: إنَّ للخلق والتدبير المتجدِّدَين توسُّطاتٍ وحيانيَّةً تتنزَّل على المخلوقات فتلهُمها وتسدِّدها كلًّا بحسب سعتها ومقادير وجودها. والإلهام الهادي لا يفارق الوحي الساري في ثنايا الوجود، إنَّما هو رتبة رفيعة منه، ولطفٌ وحيانيٌّ شاملٌ عالم الخلق والتدبير. ولقد ذهب العرفاء إلى تعريف الإلهام بأنَّه “خبرٌ إلهيٌّ”، إلَّا أنَّه – عندهم – يَفرُقُ عن الوحي بطريقة التلقِّي والإفاضة كما يورد ابن عربي. وذلك نظير آليَّات التفريق والتمييز بين علوم الأنبياء ومعارف الأولياء.

 

لأجل ذلك، كان التنبيه إلى اجتناب الخلط بين هذين المعنيين، وهو ما بيَّنه صاحب “الفتوحات المكّيَّة” بقوله: “إنَّ لنا من الله الإلهام، لا الوحي”، وما يُدرَكُ الإلهامُ بالعقل إنَّما بطريق القلب. ولأجل التمييز بين الإلهام و”العلم الَّلدنيّ”، يبيِّن ابن عربي أنَّ الإلهام عارضٌ طارئ؛ يزول ويجيء غيره، والعلم الوحيانيَّ الَّلدنيَّ ثابتٌ لا يبرح. فمنه يكون في أصل الخِلقة والجِبِلَّة كعلم الحيوانات والأطفال ببعض منافعهم ومضارّهم، وهذا علمٌ ضروريٌّ لا إلهام. وأمَّا قوله: {وَأوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ}[النحل- 68]، فإنَّه يريد بيان النشأة الأصليَّة التي فطرها الله عليها.

 

والإلهام قد يصيب، وقد يخطئ. فالمصيب منه يسمَّى “علم الإلهام”، وما يخطئ منه يسمَّى إلهامًا لا علمًا، أي لا علم إلهام. وهكذا، فإنَّ الإلهام الإلهيَّ يمدُّ المصلحين والفلاسفة بالنواميس التي تبقي فيها حالة الصلاح دائمة على الأرض من دون أن يخطر ببالهم أنَّ عملهم وأفكارهم تأتيهم من دون علم مسبق منهم. والحاصل أنَّ “الوحي” والإلهام يشملان كلَّ الموجودات: “الوحيُ سارٍ في كلِّ صنف من المخلوقات يمنحها العلم والمعرفة بحسب مقاديرها.. وأمَّا الإلهام، فهو معرفة وتعريف، ولا يخلو منه موجود.

 

من أجل ذلك، سيقال إنَّ كلَّ معرفة هي علم وليس كلُّ علم معرفة، فعلم الله ليس معرفة، ولا تسري على الخالق صفة العارف، لأنَّه العالم الذي يجود بعلمه على خلقه وكلٌّ بحسب مقداره وسعته. أمَّا المعرفة التامَّة لمقاصد الوحي فهي التصديق بالخبر الإلهيِّ كمبدأ ضروريٍّ لإدراك الوجود على ما هو عليه، ثمَّ ليميِّز بالحكمة العمليَّة، خيرها من شرِّها وحسنُها من سوئها.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد