قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (2)

3ـ الصبر

 

إنه ردّة الفعل هنا في هذه المرحلة. إنه قيمة عظيمة في مواجهة البلاء، قال تعالى: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ (1).

 

فهذه الآية تخبرنا أنّ المؤمنين سيبتلون في المال، حيث قد تصادر أموالهم، أو قد يضيّق عليهم في وظائفهم ورواتبهم، أو قد تمنع عنهم الأموال العامة التي تشملهم بطبيعتها، وسيبتلون في الأنفس، فقد يقتلون في سبيل قضيتهم، وقد يتساقط بعضهم في الهاوية فيخضع للطرف الآخر فيقلّ عدد نفوس المؤمنين بالمشروع التغييري الإيماني، وقد يكون ابتلاؤهم بأنفسهم باغتيالها اجتماعياً وسياسياً ونحو ذلك.

 

إنّ هؤلاء المؤمنين الصادقين سيسمعون الكثير من الأذى، حتّى من بعض أتباع الدين (أهل الكتاب)، سيفترى عليهم ويكذب، سيظلمون بغيبتهم وبهتانهم وتتبع عثراتهم وتناسي حسناتهم وتشويه صورتهم وتضخيم سلبياتهم وتقزيم إيجابياتهم وغير ذلك. إن الأذى ليس بقليل، إنه أذى كثير كما وصفته الآية، لكن ما هو المفترض فعله؟ إنه خطوتان هامتان هنا، هما:

 

الصبر والتحمّل إلى جانب التقوى، كما قالت الآية المتقدّمة، وعدم الانفعال والخروج عن قواعد الهدوء والسكينة اللتين يتصف بهما المؤمن التقيّ.

 

لقد علّم الله سبحانه رسوله أن لا يستدرج ويستخفّ في هذه المواقع، قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ (2).

 

لماذا الصبر؟ كي لا تكون أفعال الآخرين وتصرّفاتهم السلبية تجاه الدعوة الدينية استفزازاً يخرج الإنسان عن حالته الطبيعية، فيصيّره خفيفاً لا وزن له، فينفعل ويضطرب ويغضب، وتصدر منه التصرّفات المشينة، فيفقد التقوى، فيكون الحقّ معه ثم ينقلب عليه.

 

فيا محمد، انتبه من أن يجعلك هؤلاء في تصرفاتهم الصبيانية والسفهية خفيفاً لا تزن كلماتك أو أفعالك. فهذه هي قيمة الصبر هنا، في أنه لا يسقط حركة التغيير في الانفعال الذي يشوّه صورتها، ويهبط بها إلى مستوى خصومها التافهين من مشركي قريش وأنصارهم.

 

ومن هنا أيضاً نفهم معنى قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ (3)، فإنّ هذا الجواب (السلام) تعبير آخر عن ردّة الفعل الهادئة والمتعالية في الوقت عينه عن نمطهم السفهي في مواجهة الآخرين، وذلك أنّ واحدةً من أخطر مظاهر العداء مع الآخر هي أن يتأثر الإنسان بخصمه، فيجرّه خصمه لكي يفعل أفعاله وينزل إلى منزلته، فيستخف العدوّ عقلنا بخفّة عقله، ويفقدنا اتزاننا بفوضويته وعبثيته، هنا لابدّ أن يكون الجواب (سلام)، أي لا حرب بيننا بالمعنى الذي تريده أنت، بل نحن من يصنع قواعد الحرب بصبرنا.

 

لكن كيف يكون الصبر؟ هل هو المذلّة عينها؟ كيف يمكن تحصيله في هذه الحالات؟ وكيف يمكن إدارة تطبيقه؟ وكيف يمكن للإنسان أن يبني شخصيته العصامية المؤمنة وسط كلّ هذا الظلم والجور والإجحاف والاستهزاء؟

 

للجواب عن هذه الأسئلة، وعن كيفيّة الصبر في المرحلة المكّيّة، يجب أن نستذكر أنّ الصبر يملك في حدّ نفسه قيمةً، وأنّه مُعينٌ للإنسان، وليس يُستعان له فقط.

 

ففي المراحل الأولى يحتاج الإنسان إلى ما يدفعه للصبر، ويحقِّق الصبرَ في حياته، لكنّ التربية الروحيّة والنفسيّة تجعله يأخذ الصبر معيناً له، لا مُعاناً عليه. ولعلّ هذا بعض أوجه قوله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ (4).

 

فالصبر معينٌ للإنسان على مواجهة شدائد الأمور. وهذا معناه أنّ الإنسان غير الصابر في المرحلة المكّيّة لن يتمكَّن من مواجهة عظائم المصائب والبلايا، بل سيسقط في الاستعجال والتهوُّر تارةً، أو في الانسحاب والتراجع أخرى. وهذا معنى أنّ الصبر يساعدنا على تحقيق ما نصبو إليه، ونأمل تحقيقه.

 

لكنْ كيف يمكن أنْ نمتلك مَلَكة الصبر في مواقعه؟

 

إنّ القرآن الكريم يشير لنا إلى بعض المتنفَّسات الروحيّة التي تفرِّغ الضغط الناجم عن مواجهة الواقع القاسي من حولنا. فالله تعالى لاحظ أنّ الرسول الأكرم قد ضاق صدره ممّا فعله الكافرون معه، وممّا ظلموه به، وأراد أن يضع له الحلول الروحيّة التي تخفِّف عنه ضغط الواقع المرّ، فقال: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ (5).

 

إنّ ضيق الصدر تعبيرٌ آخر عن شعور الإنسان بالضغط والإشراف على عدم التحمُّل. والله هنا يعلِّم نبيَّه وكلَّ العاملين في خطّه بأنّكم إذا واجهتم كلّ الظلم والاعتداء والتهمة من الآخرين، وضاق صدركم من قولهم ومن كذبهم وافترائهم، فإنّ الحلّ لضيق الصدر يكمن في اللجوء الروحيّ إلى الله تعالى. إنّه التسبيح بحمد الله واستذكار نِعَمه وفضله وعلوّ مقامه وجلاله؛ إنّه السجود لله في ما يعبِّر السجود عن التسليم لله ومنحه السلطنة المطلقة على حياتنا في ما يريد أن يضعنا أو أن يقسم لنا في الرزق بأنواعه.

 

إنّه السجود في ما يعنيه من أرفع درجات التعبُّد لله واللجوء إليه، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ (6). فليس هناك في روح المؤمن إلاّ الله ملجأً يلجأ إليه، ويميل إليه، ويستجير به.

 

واللجوء إلى الله ليس فقط بدعوته في لحظات الشدّة؛ لكي يدفع الله عنه ويدافع، كما يفعل الطبع البشريّ في العادة، بل هو اللجوء الروحيّ إليه، والدخول في كهفه، والعيش معه. هنا يتداخل البعد الروحيّ في حياة الإنسان مع البعد العمليّ، ويصبح اللجوء إلى الله هو نفس عيش القرب له سبحانه، فيكون الله ملجأً من الغير، يدفع عن المؤمن شرَّهم وأذيَّتهم: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ (7)، وهو في الوقت عينه ملجأٌ من النفس، يحميها من الانحراف والزيغ في لحظات العسرة التي قد تفقد الإنسان ضبطه لقواعد الإيمان في الروح.

 

وهذا لونٌ آخر ممّا قلناه سابقاً من أنّ المرحلة المكّيّة لها جانبها الذاتيّ في بناء الشخصيّة الصالحة.

 

ولهذا تستمرّ الآية الكريمة المشار إليها بالمطالبة بالعبادة حتّى الموت (اليقين)؛ لأنّ هذه العلاقة مع الله سبحانه، والتي أريد لها أن ترفع ضغط الواقع عن الإنسان الصالح، لا تنتهي بارتفاع هذا الواقع؛ لأنّها علاقة غير نفعيّة بشكلٍ آنيّ، وإنّما هي المبدأ والأصل في حياة الإنسان المؤمن، فلم يطلب الله من المؤمنين اللجوء الروحيّ إليه لتنفيس الاحتقان إلاّ بقدر ما أراد أن يجعل هذا اللجوء بهذا الغرض ترسيخاً للعلاقة معه سبحانه إلى ما هو أبعد من هذه الدائرة.

 

لقد عرفنا كيفيّة الصبر ومنشأه في هذه المرحلة، لكنْ ألا يكون الصبر ذُلاًّ وجبناً وتخاذُلاً هنا؟!

 

لقد واجه المسلمون الأوائل هذه الظاهرة، فطالب الكثيرون منهم بالحرب والجهاد في العصر المكّيّ وبدايات العصر المدنيّ. كما واجه أنصار الإمام عليّ في عصره وبعده هذه الظاهرة أيضاً، فكان بعضهم يهدف التصعيد على الدوام في مواجهة الطرف الآخر في الداخل الإسلاميّ. وقد أدّى هذا الأمر إلى اتّهامهم الإمام الحسن باتّهامات قاسية (مذلّ المؤمنين).

 

بل هناك مَنْ يستصعب سكوت الإمام عليّ عن بعض التصرُّفات التي صدرت ضدّه وأهل بيته، وهو المعروف بالشجاعة والجرأة. وهذه ظاهرةٌ غير خاصّة بالمناخ الدينيّ.

 

هذا نوعٌ آخر من البلاء الذي يواجهه المؤمنون في المرحلة المكّيّة. ولعلّه من أصعب الأنواع. وحلُّه يكون بالصبر؛ فإنّ الصبر كما ذكر علماء الأخلاق على أنواع، وأحد أنواعه هو ما تقدَّم من الصبر على ظلم الآخرين وأذاهم، لكنّ نوعه الآخر هو الصبر على مطالب النفس. فالنفس قد تدفع بالإنسان لينفعل، ليأخذ بثأره أو ليحصل على حقّه، فيما الصالح العامّ يتطلَّب منه أن يسكت حيناً عن حقّه المهضوم، أو يكتفي ببعض أنواع الاحتجاج حيناً آخر.

 

وهنا يمكن أن نفهم سكوت عليّ والحسن وغيرهما من أئمّة أهل البيت، ويمكن أن نفهم مدى تأثير حرص المصلحين في المصلحة العامّة على رغبتهم الذاتية البشريّة الطبيعيّة في القيام بردّ فعل. فالصبر على النفس كالصبر على الغير كلاهما يحتاج إلى الارتباط بالله سبحانه لتعميق العلاقة وتهدئة الروح، ليواجه به الشعور بالعجلة المجبول عليها الإنسان بشكل أو بآخر، قال سبحانه: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ (8).

 

فقبل الحصول على الحقّ المسلوب قد تمرّ أوقاتٌ وأوقات، وتطول المدد أحياناً، ليُتْعِبَ امتدادُها الطويل هذا الكثيرَ من المؤمنين، قال سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾. فالرسول نفسه هنا ـ وهو الذي عاش الطمأنينة مع الله سبحانه ـ ينادي: متى نصرُ الله؟ أي إنّ المرحلة بلغت من الصعوبة والضغط مبلغاً عظيماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. القرآن الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 186، الصفحة: 74.

2. القرآن الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 60، الصفحة: 410.

3. القرآن الكريم: سورة الفرقان (25)، الآية: 63، الصفحة: 365.

4. القرآن الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 153، الصفحة: 23.

5. القرآن الكريم: سورة الحجر (15)، الآيات: 97 - 99، الصفحة: 267.

6. القرآن الكريم: سورة الجن (72)، الآية: 22، الصفحة: 573.

7. القرآن الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 27، الصفحة: 296.

8. القرآن الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 11، الصفحة: 283.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد