قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
ذكر العلماء في مقام تفسير الآية الكريمة بعض مظاهر ومصاديق كونه - صلّى الله عليه وآله- رحمة للعالمين:
المصداق الأول: الرسول الأكرم هو الهادي إلى الله، والقائد إلى رضوانه.
المصداق الثاني: تكاليفه أسهل من تكاليف سائر الأنبياء، وشريعته سبب لإسعاد الناس وموجبة لصلاح معاشهم ومعادهم.
المصداق الثالث: الله سبحانه وتعالى يعفو عن هذه الأمة بسبب شفاعة النبي الخاتم.
المصداق الرابع: رسول الله رحم كثيرًا من أعدائه ببذل الأمان لبعضهم، وقَبِل الجزية من أهل الكتاب.
المصداق الخامس: سأل النبي ربّه تعالى أن يرفع عن أمته عذاب الاستئصال. وقد عوفي الكافر والعاصي مما أصاب الأمم السابقة من الخسف والمسخ والقذف، كما حدث لأصحاب السبت.
المصداق السادس: هو نعمة على الكافر، لأنه عرّضه للإيمان والثواب الدائم، وهداه وإن لم يهتد. وذلك كمن قدّم الطعام إلى جائع فلم يأكل، فإنّه منعم عليه، وإن لم يقبل.
المصداق السابع: وجود الرسول بين ظهراني الأمة أمان لهم، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ).
وجميع ما ذكر حق وصواب، إلا أنّ الرحمة في المنظور القرآني أعمق من ذلك وأوسع. وقد ذكرت الرحمة في البسملة باشتقاقين (الرحمن) و(الرحيم)، وفي الروايات الشريفة أنّ (الرحمة الرحمانية) هي الرحمة التي تعمّ جميع المخلوقات. و(الرحمة الرحيمية) هي الرحمة التي تخص المؤمنين.
قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وفي آية أخرى {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}، (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، والحاصل أنّ رسول الله وأهل بيته، مظهر ومصداق للرحمة الرحمانية التي تشمل جميع المخلوقات، ومظهر ومصداق للرحمة الرحيمية المختصة بالمؤمنين.
قال الله عزّ وجلّ {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}. ففي نفس الوقت الذي وسعت رحمة الله تعالى كل شيء، يصيب بعذابه من يشاء. وليس بين (رحمة الله التي وسعت كل شيء) وبين (نقمته وغضبه) تنافٍ وتناقض. وكذا ليس هناك تناقض بين كون الرسول (رحمة للعالمين) وبين ما حدث لقريش من قتل وهلاك في معركة بدر الكبرى وأمثال ذلك. إذ ليس مقتضى الرحمة للعالمين أن يهمل مصلحة الدين، ويسكت عن مظالم الظالمين وإن بلغ ما بلغ وأدى إلى شقاء الصالحين واختلال نظام الدنيا والدين. بل مقتضى الرحمة أن يوّفي لكل ذي حق حقه، وأن يقتصّ للمظلوم من الظالم.
قال عزّ وجلّ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). وبنظرة عرفانية فإنّ الشدة على الكفار وقتلهم رحمة، ولطف من الألطاف الخفية للحق، فالعذاب - الذي هو من أنفسهم - يزداد على الكفار مع كل جريمة يقومون بها، زيادة كمية وكيفية إلى ما لا نهاية. لذا فإنّ قتلهم يمنعهم من الازدياد في العذاب فهو رحمة في صورة غضب، ونعمة في صورة نقمة، مضافًا إلى الرحمة التي تنال المجتمع بقتلهم، فهم كغدة سرطانية تجتث ليبقى الجسم سالمًا، و هو المراد بقوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}. ولذا كانت الحدود والتعزيرات والقصاص حياة لنا ورحمة من أرحم الراحمين (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
قال العرفاء (لأنّ في كل جمال جلالاً مختفيًا، وفي كل جلال جمالاً مستورًا).
ومن شدة رحمته -صلّى الله عليه وآله- قال الله تعالى {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}. والبخع هو القتل، وكأنّ تأسف وحسرة الرسول على عدم إيمان قومه يكاد أن يقتله. وفي آية أخرى {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. وفي آية ثالثة {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. وهكذا علاقة المصلِح بالأمّة ليست علاقة إفراغ ذمة فقط، بل علاقة رحمة وحرص وحرقة وألم.
وقد فصّل القرآن الكريم بعض مظاهر رحمة النبي حيث قال {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. القراءة المشهورة (من أنفُسِكم) بضم الفاء. والمعنى عندئذ أن (الرسول) من جنسكم أي من البشر.
وقرأ ابن عباس، وابن علية، وابن محيصن، والزهري: (من أنفَسِكم) بفتح الفاء، وقيل: إنّها قراءة فاطمة -عليها السلام-. والمعنى مشتق عندئذ من (النفيس) فالرسول الأكرم من أفضل القبائل والعشائر والعوائل، فهو أفضل الناس حسبًا ونسبًا وأخلاقًا وغيره.
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ) التنكير في كلمة (رسولٌ) للتعظيم.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي شاق شديد عليه ما يلحقكم من الأذى والمشقة.
(حَرِيصٌ عَلَيْكُم) الحرص شدة الطلب للشيء والاجتهاد فيه.
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) ذكر (الرحمة) بعد (الرأفة)، و(الرأفة) أشد من (الرحمة) من باب ذكر العام بعد الخاص.
وقال بعض العلماء: لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا للنبي -صلّى الله عليه وآله وسلم-، فإنه قال: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) وقال: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
ونحن إذ نسلط الضوء على مظاهر ومصاديق الرحمة المحمدية نستلهم منه الدروس في الرحمة والتراحم ومكارم الأخلاق {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، ومن صفات المؤمنين الرحمة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}. فالعلاقة التي تربط المؤمنين هي علاقة التراحم وعلاقة الأخوة وعلاقة العضو بالجسد الواحد. كلما جسد الإنسان هذه القيم والمبادئ والمثل على واقعه العملي وفي تعامله مع المؤمنين كان أقرب إلى الله ورسوله وأهل البيت.
السيد عادل العلوي
محمود حيدر
الشيخ مرتضى الباشا
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشهيد مرتضى مطهري
الشيخ محمد جواد مغنية
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
بوح الأسرار: خلوة النبي (ص) بالزهراء (ع) قبل رحيله
الوداع الأخير
ميتافيزيقا السؤال المؤسِّس (1)
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
خطة الرسول الأكرم (ص)
وصيّة نبي الرحمة (ص) قبيل رحيله
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ مفادها وفيمن نزلت (2)
الشخصية المرجعية للنبيّ بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية (2)
التجّلي الأعظم (سرّ من أسرار رسول الله محمد)
الشخصية المرجعية للنبيّ بين الرسولية التبليغية والذاتية البشرية (1)