العلامة الطباطبائي ..
يقول الله تعالى في كلامه المجيد : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) .
ظاهر هذه الآية الكريمة ينهى عن عبادة الأصنام كما جاء في قوله تعالى ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) ، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر أن العلة في المنع من عبادة الأصنام كونها خضوعاً لغير الله تعالى. وهذا لا يختص بعبادة الأصنام ، بل عبّر عز شأنه عن إطاعة الشيطان أيضاً بالعبادة حيث قال : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ) .
ومن جهة أخرى يتبين أنه لا فرق في الطاعة الممقوتة بين أن تكون للغير أو للإنسان نفسه ، فإن إطاعة شهوات النفس أيضاً عبادة من دون الله تعالى كما يشير إليه في قوله : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) .
وبتحليل أدق نرى أنه لا بد من عدم التوجه إلى غير الله جل وعلا ، لأن التوجه إلى غيره معناه الاعتراف باستقلاله والخضوع له ، وهذه هي العبادة والطاعة بعينها .
أما لو توسعنا أكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه إلى غير الله أياً ما كان ذلك الغير.
إن هذا التدرج ـ ونعني به ظهور معنى بدوي من الآية ثم ظهور معنى أوسع من الأول وهكذا ـ جار في جميع الآيات الكريمة بلا استثناء.
وبالتأمل في هذا الموضوع يظهر معنى ما روي عن النبي صلىالله عليه وآله في كتب الحديث والتفسير من قوله : « إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن » .
وعلى هذا للقرآن ظاهر وباطن أو ظهر وبطن ، وكلا المعنيين يرادان من الآيات الكريمة ، إلا أنهما واقعان في الطول لا في العرض ، فإن إرادة الظاهر لا تنفي إرادة الباطن وإرادة الباطن لا تزاحم إرادة الظاهر.
لماذا تكلم القرآن بأسلوب الظاهر ، والباطن :
١ ـ الإنسان في حياته الدنيوية يشبه الحباب الذي يعلو الماء ، اذ ركز أوتاد خباء وجوده في مياه بحر المادية ، وكل ما يقوم به من المساعي والجهود أعطيت أزمّتها بيد ذلك البحر المادي الهائج.
اشتغلت حواسه الظاهرية والباطنية بالمادة ، وأفكاره إنما تتبع معلوماته الحسية. فإن الأكل والشرب والجلوس والقيام والتكلم والاستماع والذهاب والإياب والحركة والسكون وكل ما يقوم به الإنسان من الأعمال وضعت أسسها على المادة ولا يفكر إلا بها.
وما نرى منه في بعض الأحيان من الآثار المعنوية ـ كالحب والعداء وعلو الهمة ورفعة المقام وأمثالها ـ إنما تدركها بعض الأفهام لأنها تجسم مصاديق مادية ، فإن الإنسان يقيس حلاوة الغلب بحلاوة السكر وجاذبية الصداقة بجاذبية المغناطيس وعلو الهمة بعلو مكان ما أو علو نجوم السماء وعظم المقام ورفعته بعظم الجبل وما أشبه هذه الأشياء.
ومع هذا تختلف الأفهام في إدراك المعنويات التي هي أوسع نطاقاً من الماديات ، فإن بعض الأفهام في غاية الانحطاط في درك المعنويات ، وبعضها تدرك إدراكاً قليلاً ، وهكذا تتدرّج إلى أن تصل بعض الأفهام بسهولة إلى درك أوسع المعنويات غير المادية.
وعلى كل حال فكلما تقدمت الأفهام نحو إدراك المعنويات قلَّ تعلّقها بالمظاهر المادية المغرية ، وكلما قلَّ تعلقها بالمادة ازداد إدراكها ، ومعنى هذا أن كل إنسان بطبيعته الإنسانية فيه الاستعداد الذاتي لهذا الإدراك ، لو لم يشبه بالشوائب العرضية .
٢ ـ نستنتج مما سبق أنه لا يمكن حمل ما يدركه الإنسان الذي هو في المرتبة العليا من الفهم والعقل على الذي هو في المرتبة السفلى ، ولو حاولنا ذلك لكانت النتيجة عكسية ، وخاصة في المعنويات التي هي أهم من المحسوسات المادية ، فإنها لو ألقيت كما هي على العامة لأعطت نتيجة تناقض النتيجة الصحيحة المتوخاة.
ولا بأس أن نمثل ها هنا بالمذهب الوثني. فلو تأمل الباحث في قسم « أوبانيشاد » من كتاب « ويدا » الكتاب البوذي المقدس ، وقارن بين أقواله مقارنة صحيحة لرأى أنه يهدف إلى التوحيد الخالص. ولكن على مستوى أفكار عامة ، فكانت النتيجة أن اتجه ضعفاء العقول من الهنود إلى عبادة أوثان شتى.
إذن لا يمكن رفع الستار بصورة مكشوفة عن الأسرار الغيبية وما يتعلق بما وراء الطبيعة والمادة للماديين ومن لم يذعن بالحقائق.
٣ ـ بخلاف ما نجده في الأديان من حرمان العامة من كثير من المزايا الدينية ، كحرمان المرأة في البرهمية واليهودية والمسيحية وحرمان غير رجال الدين من ثقافة الكتاب المقدس في الوثنية والمسيحية . فإن أبواب الدين الإسلامي لم تغلق في وجه أحد ، فالمزايا الدينية فيه للجميع وليست ملكاً لفئة خاصة ، فلا فرق بين العامة والخاصة والرجل والمرأة والأبيض والأسود .
قال تعالى : ( إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) .
وقال عز من قائل : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
بعد تقديم هذه المقدمات الثلاث نقول : إن القرآن الكريم ينظر في تعاليمه القيمة إلى الإنسانية بما هي إنسانية ، ويعتني بالإنسان باعتباره قابلاً للتربية والسير في مدارج الكمال.
ونظراً إلى أن الافهام والعقول تختلف في إدراك المعنويات ولا يؤمن الخطر عند إلقاء المعارف العالية كما أسلفنا . يستعرض القرآن الكريم تعاليمه بأبسط المستويات التي تناسب العامة ويتكلم في حدود فهمهم ومداركهم .
إن هذه الطريقة الحكيمة تنتج بث المعارف العالية بلغة يفهمها عامة الناس ، وتؤدي ظواهر الألفاظ هذه الطريقة بشكل محسوس أو ما يقرب منه وتبقى الحقائق المعنوية وراء ستار الظواهر فتتجلى حسب الأفهام ويدرك منها كل شخص بقدر عقله ومداركه.
يقول تعالى : ( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) .
ويقول ممثلاً للحق والباطل ومقدار الأفهام : ( أنزل من السماء ماءاً فسالت أودية بقدرها ) .
ويقول الرسول صلىالله عليه وآله في حديث مشهور : « إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم » .
ونتيجة لهذه الطريقة تكون ظواهر الآيات كأمثال بالنسبة إلى البواطن ، يعني بالنسبة إلى المعارف الإلهية التي هي أعلى مستوى من أفهام العامة ، يقول جل جلاله : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) .
ويقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) .
وفي القرآن الكريم كثير من الأمثال ، إلا أن الآيات المذكورة وما في معناها مطلقة لا تختص بأمثال قرآنية خاصة.
المصدر: القرآن في الإسلام
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان