قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾

المسألة:

 

اختلف المفسّرون في معنى (الحكم) في قوله تعالى: ﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(1) بين من فسَّره بالنبوَّة، وبين من فسَّره بالعقل، والسيِّد العلامة فسَّره بالعلم بالمعارف الحقّة الإلهية وانكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الأنظار العادية. ما هو نظركم في ذلك؟

 

الجواب:

 

لا يُمكن استظهار إرادة النبوَّة من حاقِّ لفظ الحكم، فإنَّ المدلول اللُّغوي والعرفي لكلمة الحكم يقبل الصدق على ما دون النبوَّة كما يقبلُ الصدق على النبوَّة، وقد استعمل القرآن -ظاهراً- كلمة الحكم في غير النبوَّة كما في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾(4) فإنَّ عطف النبوَّة على الحكم ظاهرٌ في المغايرة.

 

فالبناءُ على إرادة النبوَّة من كلمة الحكم في قوله تعالى: ﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ لا يتمُّ إلا مِن أحد طريقين:

 

الطريق الأول: أنْ يثبت عن الرسول الكريم (ص) أو عن أهل بيته (ع) تفسير الحكم في الآية بالنبوَّة، فالرسولُ الكريم (ص) وأهلُ بيته (ع) أعرفُ خلق الله على الإطلاق بمقاصد الكتاب المجيد.

 

الطريق الثاني: ملاحظة القرائن المكتنفة بالآية، فلعلَّها مشتملةٌ على ما يصلحُ لاستظهار إرادة النبوَّة من كلمة الحكم.

 

أمَّا الطريق الأول: فمنه: ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) وقَدْ خَرَجَ عَلَيَّ فَأَخَذْتُ النَّظَرَ إِلَيْه وجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَأْسِه ورِجْلَيْه لأَصِفَ قَامَتَه لأَصْحَابِنَا بِمِصْرَ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ حَتَّى قَعَدَ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّه احْتَجَّ فِي الإِمَامَةِ بِمِثْلِ مَا احْتَجَّ بِه فِي النُّبُوَّةِ فَقَالَ: ﴿وآتَيْناه الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ و﴿لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه﴾ ﴿وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وهُوَ صَبِيٌّ ويَجُوزُ أَنْ يُؤْتَاهَا وهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً"(5) وأورد الرواية العياشي مع شيءٍ من التفاوت(6).

 

فالإمام (ع) بعد أنْ أفاد أنَّ الله "احْتَجَّ فِي الإِمَامَةِ بِمِثْلِ مَا احْتَجَّ بِه فِي النُّبُوَّةِ" استشهد على ذلك بقوله تعالى: ﴿وآتَيْناه الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ يعني استشهد على أنَّ الله قد أعطى النبوَّة لمن هو في عمر الصبا بالآية الشريفة، وهذا لا يتمُّ إلا إذا كان المراد من الحكم في الآية هو النبوَّة كما هو واضح.

 

وكذلك فإنَّ استشهاد الإمام (ع) بقوله تعالى من سورة يوسف: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(7) ظاهرٌ بل واضح في تفسير الحكم الوارد في الآية بالنبوَّة، وذلك لأنَّه في مقام الإفادة بأنَّ الله تعالى يُعطي النبوة لمَن هو في عمر الصبا كما يُعطيها لمَن بلغ أشدَّه، لذلك ختم (ع) بقوله: "فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ الحكم- وهُوَ صَبِيٌّ ويَجُوزُ أَنْ يُؤْتَاهَا وهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً".

 

ومنه: ما رواه الكليني بسندٍ معتبر عن يَزِيدَ الْكُنَاسِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) أكَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (ع) حِينَ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ حُجَّةَ اللَّه عَلَى أَهْلِ زَمَانِه فَقَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ نَبِيّاً حُجَّةَ اللَّه غَيْرَ مُرْسَلٍ، أمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِه حِينَ قَالَ: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتانِيَ الْكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا / وجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وأَوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ قُلْتُ: فَكَانَ يَوْمَئِذٍ حُجَّةً لِلَّه عَلَى زَكَرِيَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ وهُوَ فِي الْمَهْدِ؟ فَقَالَ: كَانَ عِيسَى فِي تِلْكَ الْحَالِ آيَةً لِلنَّاسِ ورَحْمَةً مِنَ اللَّه لِمَرْيَمَ حِينَ تَكَلَّمَ فَعَبَّرَ عَنْهَا وكَانَ نَبِيّاً حُجَّةً عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامَه فِي تِلْكَ الْحَالِ، ثُمَّ صَمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى مَضَتْ لَه سَنَتَانِ وكَانَ زَكَرِيَّا الْحُجَّةَ لِلَّه عَزَّ وجَلَّ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ صَمْتِ عِيسَى بِسَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ زَكَرِيَّا فَوَرِثَه ابْنُه يَحْيَى الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ أمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: ﴿يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناه الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ فَلَمَّا بَلَغَ عِيسَى (ع) سَبْعَ سِنِينَ تَكَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ والرِّسَالَةِ حِينَ أَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْه فَكَانَ عِيسَى الْحُجَّةَ عَلَى يَحْيَى وعَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ ولَيْسَ تَبْقَى الأَرْضُ يَا أَبَا خَالِدٍ يَوْماً وَاحِداً بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلَّه عَلَى النَّاسِ مُنْذُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه آدَمَ ع وأَسْكَنَه الأَرْضَ .."(8).

 

فقوله (ع): "ثُمَّ مَاتَ زَكَرِيَّا فَوَرِثَه ابْنُه يَحْيَى الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ أمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: ﴿يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناه الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ .." ظاهر في أنَّ يحيى ورث النبوَّة من زكريا بمعنى أنَّه أُعطي النبوَّة بعد أبيه، وقد استشهد الإمام (ع) على ذلك بقوله تعالى: ﴿يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناه الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ والظاهر من ذلك أنَّ الحكم الذي آتاه الله إيَّاه وهو صبي هو النبوَّة.

 

والذي يؤكِّد ذلك أنَّ عيسى -بحسب الرواية- لم يتكلَّم بالنبوَّة والرسالة إلا بعد أن بلغ سبع سنين، وزكريا مات -بحسب الرواية- بعد سنتين من مولد عيسى، وذلك ما يؤكِّد أنَّ المقصود قوله (ع): "فَوَرِثَه ابْنُه يَحْيَى الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ" هو أنَّه ورث النبوَّة، وذلك لامتناع بقاء الأرض دون حجَّةٍ قائمة، فالحجَّة القائمة بعد زكريا إلى أنْ بلغ عيسى سبع سنين كانت ليحيى (ع) فذلك -ظاهراً- هو ما يروم الإمام (ع) إفادته بقرينة قوله بعد ذلك: "ولَيْسَ تَبْقَى الأَرْضُ يَا أَبَا خَالِدٍ يَوْماً وَاحِداً بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلَّه عَلَى النَّاسِ ..".

 

والخلاصة إن الإمام (ع) استشهد على وراثة يحيى للنبوة بقوله تعالى: ﴿يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناه الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ وهو ما يظهر منه الإفادة بأنَّ المراد من الحكم في الآية هو النبوَّة.

 

وأمَّا الطريق الثاني: فهو هذه القرينة التي ذكرها بعض المفسِّرين، ويمكن تقريبها من ملاحظة مقدِّمتين:

 

المقدِّمة الأولى: هي إنَّه لا ريب في نبوَّة يحيى (ع) كما نصَّ على ذلك القرآن المجيد في قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(9).

 

المقدمة الثانية: الواضح من الآيات التي جاء قولُه تعالى: ﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ في سياقها أنَّها متصدِّية لتَعداد كرائم النعم التي أنعم اللهُ تعالى بها على يحيى (ع) منذُ ولادته مروراً بصباه إلى حين موته بل وإلى حين بعثه حيَّاً قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا / وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا / وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا / وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾(10).

 

فالواضح من الآيات أنَّها بصدد التَعداد لكرائم النعم التي أنعم الله بها على يحيى (ع) والمناسب في هذا الفرض عدم الإغفال لأعظم نعمةٍ أنعم اللهُ بها عليه وهي النبوَّة، بل إنَّ الإغفال لمثلها رغم أنَّه بصدد التَعداد للنعم ورغم أنّ كلَّ ما عداها فهو دونها في الفضل، إنَّ الإغفال لمثلها في هذا الفرض منافٍ لمقتضيات الفصاحة والبلاغة، ولِما عليه عرف العقلاء وأهل الكلام والمحاورة، ولهذا يتعيَّن البناء على أنَّه تعالى قد نوَّه على هذه النعمة ضمن ما عدَّده من النعم، وليس فيما عدَّده ما يصلحُ لإرادة النبوَّة سوى هذه الفقرة: ﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ وبهذا يُمكن استظهار إرادة النبوَّة من كلمة الحكم في الآية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة مريم / 12.

2- سورة آل عمران / 79.

3- سورة الأنعام / 89.

4- سورة الجاثية / 16.

5- الكافي -الكليني- ج1 / ص384، 494.

6- وروى العياشي -كما في مجمع البيان- بإسناده، عن علي بن أسباط، قال: قدمت المدينة وأنا أريد مصر، فدخلت على أبي جعفر، محمد بن علي الرضا عليه السلام، وهو إذ ذاك خماسي، فجعلت أتأمله لأصفه لأصحابنا بمصر، فنظر إلي، فقال لي: يا علي! إن الله قد أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوة، قال: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ وقال: ﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ فقد يجوز أن يعطي الحكم ابن أربعين سنة، ويجوز أن يعطاه الصبي" تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج6 / ص408، البرهان في تفسير القرآن -السيد هاشم البحراني- ج3 / ص703.

7- سورة يوسف: 22.

8- الكافي -الكليني- ج1 / ص82

9- سورة آل عمران / 39.

10- سورة مريم / 12-15.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد