قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

الغاية من مجادلة إبراهيم عن قوم لوط

المسألة:

 

قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}(1) كيف يُجادل نبيُّ الله إبراهيم (ع) في قومِ لوط الذين كذَّبوا المرسلين، وأصرُّوا على ارتكاب أشدِّ المنكرات فحشاً؟! ثم إنَّ الجدال في قوم لوط ألا يعدُّ من الاعتراض على ما قضاه الله تعالى وأمر ملائكته بانجازه ؟!

 

الجواب:

 

تتحدَّث الآية المباركة عن المحاورة التي وقعت بين إبراهيم (ع) وبين الملائكة الذين أُرسلوا لإيقاع العذاب على قوم لوط، فقد كُلِّفوا بأن يذهبوا - قبل إنجاز المهمَّة التي أُنيطت بهم - إلى إبراهيم (ع) ويُخبروه بما أمرهم الله تعالى به، وكُلِّفوا كذلك بتبشيره بما قضاهُ الله تعالى من هِبته له على كبر سنَّه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب عليهما السلام، فحين جاءته البشرى بإسحاق وسكن روعُه بعد أن كان وجِلاً لعدم علمه بهويتهم حينذاك أخذ يُجادلُهم في قوم لوط.

 

تحرير الإشكال:

 

والإشكال الذي يُقال في المقام هو أنَّه كيف يُجادلُهم في قومٍ كذَّبوا المرسَلين كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}(2) وكيف يُجادلُهم في قومٍ وصفهم القرآنُ المجيد على لسان ملائكته بقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}(3) وقد ابتدعوا فاحشةً هي من أشدِّ المنكرات فُحشاً وأصرُّوا - رغم الوعظ والتحذير والإنذار - على مقارفتها، ولم يسبقهم إليها أحد كما قال تعالى على لسان نبيِّه لوط (ع): {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}(4)

 

ثم إنَّ هذه المجادلة عن قومِ لوط إنْ كانت مجادلة لله جلَّ وعلا فهي جرأةٌ على الله تعالى وفيها تعبيرٌ عن عدم الرضا بما قضاه الله تعالى، وإنْ كان مجادلةً للملائكة فإنَّ كانت غايتُها صرفَهم عن إهلاك قوم لوط وكان يعلم أنَّهم مأمورون بإهلاكهم فمعنى ذلك أنَّه يسعى بمجادلته لصرفِهم عن طاعة الله وإغرائهم بمعصيته، وإنْ كان يعتقدُ أنَّهم يُريدون إهلاك قومِ لوط من تلقاء أنفسهم دون أن يكونوا مأمورين بذلك فهو مستبعد غايته لعلمه بأنَّهم لا يصدرون إلا عن أمر الله جلَّ وعلا كما قال تعالى: { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(5)

 

الجواب الأول ومناقشته:

 

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بأنَّ مجادلة إبراهيم (ع) لم تكن عن قومِ لوط وإنَّما كانت مجادلته عن نبيِّ الله لوط (ع) والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ *قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}(6) فإبراهيم (ع) إنَّما جادل عن قوم لوط لوجود لوطٍ (ع) بينهم، فمجادلته كانت بمعنى سعيه في طلب تأخير إيقاع العذاب عن قوم لوط لوجود لوط (ع) بينهم، لذلك أجابوه بقولهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} وبذلك ينتفي الإشكال، فلا يُقال كيف يُجادلُ إبراهيم (ع) عن قومٍ مجرمين كذَّبوا المرسلين، وارتكبوا أفحش المنكرات، فهو لم يكن يجادل عنهم وإنَّما كان يجادل عن نبيِّ الله لوطٍ (ع).

 

إلا أنَّ ذلك خلاف ظاهر الآية والتي نصَّت على متعلَّق المجادلة وأنَّها عن قوم لوط ويؤكِّد ذلك جواب الملائكة: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} فمؤدَّى الجواب يكشفُ عن طبيعة المجادلة وعمَّن كان يُجادل عنهم، فقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} يكشف عن أنَّ إبراهيم كان يجادل عن قوم لوط ويسعى في صرف العذاب عنهم أو تأخيره، لذلك كان الجواب أنَّه قد قُضي الأمر فصار وقوع العذاب عليهم حتميَّاً، لا مردَّ له ولا سبيل إلى صرفه أو تأخيره عنهم، فذلك هو مؤدَّى قوله تعالى: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.

 

الجواب الثاني:

 

فالصحيح في الجواب عن الإشكال هو أنَّ إبراهيم (ع) كان يطلب صرف العذاب أو تأخيره عن قوم لوط برجاء أن يثوبوا إلى رشدِهم ويرجعوا عن غيِّهم ويتوبوا إلى ربِّهم، فهو بذلك لا يُدافع عن باطلهم وفسادهم وإنَّما يطلبُ صرفَ أو تأخيرَ العذاب عنهم على أملِ أنْ يجدي معهم الاستمرار في الوعظ والإنذار فيقلعوا عن باطلِهم وفسادهم، فأين ذلك من الدفاع عن المجرمين المكذِّبين للرسل؟! فالشأن في ذلك هو الشأن في الدعوة إلى التريُّث قبل معاقبة الجاني أو العفو عنه علَّ ذلك يكون باعثاً له على التوبة والعودة إلى الاستقامة. ويؤكِّد ذلك الآية التي تلتْ الإخبار عن مجادلة إبراهيم (ع) فإنَّها مدحت إبراهيم بالحليم الأواه قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}(7) فهي قد مدحته بسعة الصدر والتأني وعدم المبادرة إلى معاقبة المجترح للأخطاء ومدحته بالأوَّاه الذي يُحزنه انصراف العباد عن سبيل الهداية والاستقامة. فلو كانت مجادلة إبراهيم معصية لله أو جرأة عليه جلَّ وعلا لما ناسب ذلك التعقيبَ على مجادلته بالمدح والثناء على حلمه وسعة صدره وحرصه.

 

ثم إنَّ مجادلته وطلبه صرف العذاب أو تأخيره عن قوم لوط لا يعني عدم الرضا بقضاء الله المحتوم، فلعلَّه كان يحسب أنَّ أمره تعالى للملائكة بإيقاع العذاب على قوم لوط كان من الأوامر التي لله تعالى فيها البداء وأنَّه يمكن أن يرفع عنهم ما قدَّره من العذاب بالطلب والدعاء والشفاعة فأنَّه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(8) فلعله حسب أنَّ ما أمر الله به ملائكته في شأن قوم لوط كان من قبيل الأوامر التي لله فيها البداء، لذلك تصدَّى للشفاعة قبل أن تُخبره الملائكة بأنَّ الأمر الإلهي في شأن قوم لوط من القضاء المحتوم الذي لا مردَّ له، وهذا ما يكشف عنه جواب الملائكة: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.

 

وخلاصة الجواب أنَّ مجادلة إبراهيم (ع) عن قوم لوط ليس من الدفاع عنهم وإنَّما هو من قبيل الطلب لاستبقائهم رجاءً لتوبتهم ورجوعهم عن غيِّهم وليس في مجادلته عنهم جرأة على الله تعالى بل هو من قبيل الدعاء والشفاعة للعصاة وليس هو من الردِّ لقضاء الله وحتمه، إذ أنَّه لم يكن يحسب أنَّ الأمر في شأن قوم لوط كان من الأوامر المحتومة، فأوامر الله تعالى قد تكون محتومة وقد يكون له فيها البداء بمعنى أنَّها تكون معلَّقة على مثل عدم الدعاء وعدم الشفاعة فتصدِّي إبراهيم (ع) للمجادلة عن قوم لوط نشأ عن أنَّه كان يحسب أن الأمر الإلهي في شأنهم كان من القضاء الذي يمكن محوه بالدعاء والشفاعة.

 

وبذلك يتبيَّن أنَّ مجادلته للملائكة في شأن قوم لوط ليس لأنَّه يعتقد أنَّ الملائكة قد قرَّروا ذلك من تلقاء أنفسهم فهو يعلم أنَّهم لا يصدرون إلا عن أمر الله تعالى، ومجادلتُه لهم ليس لغرض تحريضهم – كما توهَّم المستشكل- على مخالفة ما أُمروا به، وإنَّما هو من السعي لأنْ يصرف اللهُ تعالى عنهم بدعائه وشفاعته ما كان قد قضاه عليهم، ولذلك ورد في الأثر -كما في تفسير القمي- أنَّ إبراهيم (ع) قال لجبرئيل (ع): "يا جبرئيل راجع ربَّك فيهم فأوحى الله كلمح البصر{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}"(9). فالمجادلة لم تكن تعدو المراجعة والطلب وبعد أن تبين أن الأمر محتوم أعرض امتثالاً لأمر الله تعالى له بالإعراض.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة هود:74.

2- سورة الشعراء: 160،

3- سورة الحجر: 58.

4- سورة الأعراف: 160.

5-سورة الأنبياء: 26، 27.

6-سورة العنكبوت: 31، 32.

7-سورة هود:75.

8-سورة الرعد: 39.

9- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي-ج1/ 335.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد