المسألة:
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(1) ما معنى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} وإلى أيِّ شيء تُشير الآية المباركة؟
الجواب:
معنى الغلول ومفاد الآية:
الغلول يعني الخيانة يقال: غَلَّ الرجل ويَغُلُّ غُلولاً وأَغَلَّ بمعنى خان ويخون، وكثيرًا ما يُستعمل الغُلول بمشتقاته في أخذ شيءٍ من مغانم الحرب دون وجه حقِّ، كأن يأخذه خلسةً وخفيةً قبل القسمة أو يأخذ من المغنم ما لا يستحقَّه قهراً أو احتيالاً أو بغير إذنٍ ممَّن له الأمر.
فمعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} هو أنَّه ما كان لنبيِّ أن يخون مطلقاً وفي المغنم، فالأنبياء أمناء الله تعالى، ولهذا لا تجتمع النبوَّة والخيانة أبداً، وذلك للتنافي والتضاد بين الوصفين.
فقوله: {أَنْ يَغُلَّ} مؤول بمصدر وهو الغلول لأنَّ: أنْ المصدرية مع الفعل تؤولان بمصدر، فيكون تقدير الفقرة ما كان الغلول لنبيٍّ، فالغلول اسم كان و"لنبيٍّ" متعلق بمحذوف خبر، والتقدير ما كان الغلولُ صفةً لنبيٍّ. ويمكن القول إنَّ اللام منقولة، وتقدير الفقرة هو: ما كان نبيٌّ لأن يغلَّ ثمَّ نقلت اللام إلى "نبي" وبناءً عليه يكون نبي في موضع اسم كان وجملة لأنْ يغلَّ خبرها ولا يخلو من تكلَّف.
وعلى التقديرين فإنَّ مفاد الفقرة هو النفيُ المطلق لصدور الغلول من النبي، وأنَّ النبوَّة لا تجتمع مع الغلول، والآية سيقت للتشديد والمبالغة في تنزيه النبيِّ الكريم (ص) عمَّا نسَبه إليه بعض المنافقين من الغلول في المغنم، كما تؤكِّد على ذلك الروايات الواردة من طرق الفريقين في سبب نزول الآية المباركة:
الروايات في سبب النزول:
فمِن ذلك ما أفاده علي بن إبراهيم القمي في تفسيره قال: ".. وكان سبب نزولها أنه كان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت فقال رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: ما لنا لا نرى القطيفة ما أظنُّ إلا أنَّ رسول الله أخذها، فأنزل الله في ذلك: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ ..} الخ. فجاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: إنَّ فلاناً غلَّ قطيفة فاخبأها هنالك، فأمر رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله بحفر ذلك الموضع فأخرج القطيفة"(2)
ومنه: ما أورده الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن علقمة – في حديث طويل- قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): "ألم ينسبوه – ص - يوم بدر إلى أنَّه أخذ لنفسه من المغنم قطيفةً حمراء؟! حتى أظهره الله عزَّوجلَّ على القطيفة وبرأ نبيَّه (صلى الله عليه وآله) من الخيانة، وأنزل بذلك في كتابه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .."(3)
ومن طرق العامَّة ما أورده الواقدي في المغازي قال: حدثني ابن أبي سبرة عن المسور بن رفاعة عن عبد الله بن مكنف قال: سمعتُ السائب بن أبي لبابة يخبر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسهم لمبشر بن عبد المنذر وقدم بسهمه وكانت الإبل التي أصابوا يومئذٍ مائة بعير وخمسين بعيراً، وكان معهم أدمٌ كثير حملوه للتجارة فغنمه المسلمون يومئذٍ. وكانت يومئذٍ فيما أصابوا قطيفةٌ حمراء فقال بعضُهم: ما لنا لا نرى القطيفة ما نرى رسول الله إلا أخذها. فأنزل الله عزوجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} إلى آخر الآية. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنَّ فلاناً غلَّ قطيفة. فسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم الرجلَ فقال: لم أفعل يا رسولَ الله ! فقال الدالُّ: يا رسول الله احفروا ها هنا. فأمر رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلّم فحفروا هناك فاستُخرجت القطيفة.."(4)
ومنه: ما أورده الترمذي في سننه قال: حدثنا قتيبة أخبرنا عبد الواحد بن زياد عن خصيف أخبرنا مقسم قال: قال ابن عباس: "نزلت هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} في قطيفةٍ حمراء افتُقدت يوم بدر، فقال: بعضُ الناس لعلَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} إلى آخر الآية". قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. (5)
ومنه: ما أورده أبو يعلى في مسنده قال: حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا بن المبارك حدثنا شريك عن خصيف عن عكرمة عن بن عباس قال: فُقدت قطيفة حمراء يوم بدر ممَّا أُصيب من المشركين فقال أناسٌ: لعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قال خصيف: فقلتُ لسعيد: ما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ فقال: بل يُغَلَّ ويُقتل".(6)
أقول: المراد من ذيل الرواية أنَّ خصيفاً سأل سعيد بن جبير عن القراءة بفتح الغين -بنحو المبني للمفعول- فأجابه أنَّ هذه القراءة لا تصحُّ لأنَّ مقتضاها أنَّ معنى الفقرة هو أنَّ النبيَّ لا يُمكن أنْ يوضع في الأغلال، وهذا المعنى منافٍ للواقع الخارجي فإنَّ الأنبياء قد يوضعون في الأغلال بل وقد يقتلون، فالقراءة الصحيحة: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} بضمِّ الغين بنحو البناء للفاعل، ومعناه أنَّه لا يمكن أن يصدر عن نبيٍّ غلول.
ويُؤيد ذلك ما أورده النيسابوري بسنده عن مجاهد عن ابن عباس أنَّه كان يُنكر على مَن يقرأ - وما كان لنبيٍّ أن يُغَلَّ - ويقول: كيف لا يكون له أن يُغَلَّ وقد كان يُقتل، قال الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ}(7) ولكنَّ المنافقين اتَّهموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في شيءٍ من الغنيمة، فأنزل الله عز وجل:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}".(7)
وخلاصة ما أفادته الروايات أنَّ منشأ نزول الآية المباركة هو أنَّ قطيفةً حمراء فقُدت من المَغنم الذي غنِمه المسلمون من المشركين يوم بدر فزعم رجلٌ أو جماعةٌ من الصحابة – زوراً وبهتاناً وجرأةً على الله تعالى- أنَّ رسول الله (ص) قد أخذها أو لعلَّه قد أخذها، فأظهر الله تعالى براءة نبيِّه الكريم (ص) ممَّا أرجف به أهل النفاق وما نسبوه إليه من الغلول، وذلك بأنْ ظهر للعيان أنَّ أحدهم تعمَّد إخفاء القطيفة تحت التراب إمَّا حرصاً على اقتنائها أو مكايدةً للنبيِّ الكريم (ص) ثم أنزل الله جلَّ وعلا قرآناً يشدِّد فيه على نزاهة كلِّ نبيٍّ عن الغلول وأنَّه لا يجتمع في قلب رجلٍ إيمانٌ بنبوَّة النبيِّ (ص) والظنُّ بأنَّه قد يَغُلُّ، وبذلك فضحتْ الآية المباركة نفاقَ من اتَّهم أو ظنَّ بأنَّ الرسول الكريم (ص) قد غلَّ شيئاً من المغنم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة آل عمران: 161.
2- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي.- ج1/ 126
3-الأمالي- الشيخ الصدوق- ص164.
4- المغازي- الواقدي- ج1/ 102.
5-سنن الترمذي - الترمذي- ج4/297، سنن أبي داود- سليمان بن الأشعث السجستاني- ج2/ 243. مسند أبي يعلى- أبو يعلى الموصلي-ج5/ 60.
6- مسند أبي يعلى- أبو يعلى الموصلي-ج4/ 327.
7-سورة آل عمرآن: 114.
8- أسباب النزول – النيسابوري- ص 84. العجم الكبير – الطبراني- ج11/ 83، الدر المنثور في التفسير بالمأثور- السيوطي -ج2/ 92، تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي- ج1/ 390.
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عبد الحسين دستغيب
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
معنى:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ..} وسبب النزول
معنى (قوت) في القرآن الكريم
شبهة افتراق الثقلين (1)
فصيلة الدّم قد تؤثّر على خطر الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة المبكرة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (3)
دور العبادة وأسرارها الكبرى
(غيوم خارج الأفق)، أمسية شعريّة لنادي صوت المجاز
مَن أحبّ شيئًا لهج بذكره
(المهدوية، جدليّة الإيمان والمواجهة في الفكر العالميّ والضّمير الإنسانيّ) جديد الكاتب مجتبى السادة
وحيانيّة الفلسفة في الحكمة المتعالية (2)