قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد مغنية
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد مغنية، ولد عام 1322ﻫ في قرية طير دبّا، إحدى قرى جبل عامل في لبنان، درس أوّلاً في مسقط رأسه ثمّ غادر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وحين عاد إلى وطنه، عُيّن قاضيًا شرعيًّا في بيروت، ثمّ مستشارًا للمحكمة الشرعيّة العليا، فرئيسًا لها بالوكالة. من مؤلّفاته: التفسير الكاشف، فقه الإمام الصادق(ع)، في ظلال نهج البلاغة، الفقه على المذاهب الخمسة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، الإسلام والعقل، معالم الفلسفة الإسلامية، صفحات لوقت الفراغ، في ظلال الصحيفة السجادية، وسوى ذلك الكثير. تُوفّي في التاسع عشر من المحرّم 1400ﻫ في بيروت، ثمّ نُقل إلى النجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي، ودُفن في حجرة 17 بالصحن الحيدري.

صفة الجنة في القرآن الكريم

﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ومَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ واتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهً إِلَّا اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْواكُمْ (19)﴾ [ محمد: 15-19]

 

اللغة:

 

آسن متغير. حميم شديد الحرارة. آنفًا أي من أول وقت يقرب منّا. وآتاهم تقواهم وفقهم إليها، وأشراطها علاماتها ودلائلها. وذكراهم تذكرهم. متقلبكم ذهابكم ومجيئكم في أعمال الدنيا. مثواكم المراد بمثواكم مضاجعكم للنوم أو سكونكم، وقيل: مصيركم في الآخرة.

 

الإعراب:

 

مثل الجنة مبتدأ أول وأنهار مبتدأ ثان وفيها خبره والجملة خبر الأول، وقيل: خبر مثل الجنة محذوف تقديره ما أتلوه عليكم من أوصافها. ولهم فيها من كل الثمرات متعلق بمحذوف خبرًا لمبتدأ محذوف أي أنواع من كل الثمرات. ومغفرة مبتدأ والخبر محذوف أي ولهم مغفرة ومن ربهم متعلق بمغفرة. كمن هو خالد في النار خبر لمبتدأ محذوف أي: أمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار.

 

آنفًا ظرف زمان عند الزمخشري وحال عند أبي حيان الأندلسي. أي قريبًا. والمصدر من أن تأتيهم بدل اشتمال من الساعة. وبغتة في موضع الحال أي مباغتة أو صفة لمفعول مطلق محذوف. فأنّى لهم خبر مقدم وذكراهم مبتدأ مؤخر. وإذا جاءتهم جملة معترضة، وفي جاء ضمير مستتر يعود إلى الساعة، والتقدير فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.

 

المعنى:

 

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ). المراد بمثل الجنة صفتها، والمعنى أن اللَّه أخبر عباده أن من أوصاف الجنة، فيها أنهار من ماء باق على أصله وحقيقته لم يغيره شيء (وأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) ولا لونه ولا رائحته (وأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) تلذ في الفم ولا تذهب بالعقل (وأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من الشمع وغيره (ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ومنها ما لا يعرفون لها نظيرًا في الدنيا. وفي بعض كتب الصوفية أن المراد بالماء هنا العلم، وباللبن العمل، وبالخمر لذة المحبة، وبالعسل حلاوة المعرفة والقرب من اللَّه.

 

وسبق منا أكثر من مرة أن كل ما جاء في كتاب اللَّه وجب العمل بظاهره حتى يثبت العكس من النقل أو العقل، والعقل لا يأبى شيئًا من أوصاف الجنة التي دل عليها ظاهر الآيات فوجب الأخذ به وإبقاؤه على حقيقته ودلالته.

 

وتسأل: إن اللَّه سبحانه ذكر في غير مكان من كتابه أن أهل الجنة يتنعمون فيها بلذة معنوية لا حسية، كحب اللَّه لهم، ومرضاته عنهم، وارتفاع شأنهم عنده، من ذلك قوله تعالى: «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» آخر القمر. وقوله: «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» - (96 مريم). فما هو وجه الجمع بين ما دل من الآيات على أن نعيم الجنة يكون باللذة الحسية وما دل منها على أنه يكون باللذة المعنوية؟.

 

الجواب: لا مانع من الجمع بين اللذتين والعمل بالدلالتين.. فأهل الجنة يتنعمون بحب اللَّه وبعلو الشأن عنده، وأيضًا يتنعمون بالطيبات من المآكل والمشارب. قال الملا صدرا في الأسفار: «أما الجنة فهي كما دل عليه الكتاب والسنّة مطابقًا للبرهان... فلا موت فيها ولا هرم ولا غم ولا سقم ولا دثور ولا زوال، وهي دار المقامة والكرامة لا يمس أهلها نصب ولا لغوب، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، وأهلها جيران اللَّه وأولياؤه وأحباؤه، وأهل كرامته، وإنهم على مراتب متفاضلة، منهم المتنعمون بالتسبيح والتكبير، ومنهم المتنعمون باللذات المحسوسة كأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك والحور العين واستخدام الولدان والجلوس على النمارق والزرابي ولبس السندس والحرير والإستبرق، وكل منهم إنما يتلذذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلقت به همته».

 

(ومَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ). الذين يتنعمون بملذات الدنيا وشهواتها يحاسبون عليها حسابًا عسيرًا: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» - (56 المؤمنون). أما أهل الجنة فإنهم يتقلبون في نعيمها وهم في أمن وأمان من حساب اللَّه وعقابه (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). في الكلام حذف دل عليه السياق، والتقدير أفمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار لا يستوون (وسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). كيف يستوون، وأصحاب الجنة يشربون الماء العذب واللبن والخمر والعسل المصفى، وأصحاب النار يشربون حميمًا وصديدًا يغلي في البطون؟.

 

(ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً )؟. ضمير منهم يعود إلى الناس، ومن للتبعيض، والبعض المقصودون هم الكافرون أو المنافقون، والخطاب في إليك للرسول (ص)، والذين أوتوا العلم هم علماء أهل الكتاب، والمعنى أن الذين يحضرون مجلسك يا محمد من الكافرين أو المنافقين يقولون ساخرين حين يخرجون من عندك وبعد أن استمعوا إلى كلام اللَّه، يقولون لمن حضر معهم من علماء أهل الكتا : لم نفهم ماذا قال محمد ونحن في مجلسه الذي فارقناه قريبًا، فهل فهمتم أنتم شيئًا؟.. وهذا ديدن من لا يعجبه شيء إلا ما يعبر عن نزواته وشهواته.

 

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ واتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). وقوله سبحانه: اتبعوا أهواءهم: يشير إلى جواب عن سؤال مقدر، وهو لماذا طبع اللَّه على قلوبهم؟ فأجاب لأن الأهواء رانت على قلوبهم حتى كأن اللَّه قد ختم عليها أو خلقهم من غير قلوب، وبتعبير الآية 5 من سورة الصف: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ».

 

(والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). طلب المؤمنون الهداية بصدق وإخلاص، فكان اللَّه دليلهم وكفيلهم، وزادهم علمًا بالخيرات، وشملهم بعنايته وتوفيقه إلى ما يعود عليهم بالخير دنيا وآخرة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: (وآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

 

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً). ضمير ينظرون يعود إلى الذين قالوا ساخرين بالرسول الأعظم (ص): ماذا قال آنفًا. قالوا هذا ذاهلين عن يوم القيامة الذي يأخذهم على الغرة، ويقفون فيه أمام اللَّه لنقاش الحساب وفصل الخطاب (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) الضمير للساعة، والمراد بالأشراط هنا الدلائل والحجج القاطعة على البعث، وقد جاءت في كتاب اللَّه وعلى لسان محمد (ص) بشتى الأساليب، ولم تدع عذرًا لمنكر.

 

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ). في الكلام تقديم وتأخير، والأصل فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة، والمعنى لقد ذكرهم في الدنيا الرسول الأعظم فلم يتذكروا، وحين بعثوا ورأوا العذاب تذكروا وندموا، ولكن حيث لا ينتفعون بشيء (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهً إِلَّا اللَّهُ) هو يحيي ويميت ويعاقب ويثيب.. وغير بعيد أن يكون معنى فاعلم أنه لا إله إلا اللَّه هنا ادع إلى اللَّه ووحدانيته (واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ). والاستغفار من الذنب محبوب للَّه تعالى، ومطلوب بالذات، سواء أكان هناك ذنب أم لم يكن (واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الأعمال (ومَثْواكُمْ) مقركم حين تتركون العمل أو مصيركم في الآخرة كما قيل، وأيًّا ما كان فإن اللَّه سبحانه يعلم حال عباده في الدنيا والآخرة، وحين يتحركون ويسكنون.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد