
الشيخ جعفر السبحاني .. 
حلف سبحانه بالعصر مرّة واحدة دون أن يقرنه بمقسم به آخر، وقال: ﴿وَالعَصْر * إِنّ الاِنْسانَ لَفي خُسْر﴾. (1)
تفسير الآيات:
العصر يطلق ويراد منه تارة الدهر، وجمعه عصور.
وأُخرى العشيّ مقابل الغداة، يقال: العصران: الغداة والعشي، والعصران الليل والنهار، كالقمرين للشمس والقمر.
وثالثة بمعنى الضغط فيكون مصدر عصرت. والمعصور الشيء العصر، والعُصارة نفاية ما يُعصر، قال سبحانه: ﴿أَراني أَعْصِرُ خَمراً﴾ (2)، وقال: ﴿وفيهِ يَعْصِرُون﴾ (3)،وقال: ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً﴾ (4) أي السُّحُب التي تعتصر بالمطر.
ورابعة بمعنى ما يثير الغبار، قال سبحانه: ﴿فَأَصابَها إعصار﴾ (5) (6)، والمراد من الآية أحد المعنيين الأوّليين.
الأوّل: الدهر والزمان.
الثاني: العصر مقابل الغداة.
ولا يناسب المعنى الثالث، أعني: الضغط، ولا الرابع كما هو واضح. وإليك بيان المعنيين الأوّلين.
1. العصر: الدهر، وإنّما حلف به لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار، وقد نسب ذلك القول إلى ابن عباس والكلبي والجبائي.
قال الزمخشري: وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. (7)
ولعلّ المراد من الدهر والزمان اللّذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ البشرية، وذلك لأنّه سبحانه جعل المقسم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصة، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان أنّه هو من تصرم عمره ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مال وقع في يده، وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة نأتي بنصها:
قال: وعن بعض السلف، تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح، ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله، فقلت: هذا معنى أنّ الإنسان لفي خسر يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر. (8)
2. العصر: أحد طرفي النهار، وأقسم بالعصر كما أقسم بالضحى، وقال: ﴿والضحى *واللَّيل إذا سَجى﴾ (9) كما أقسم بالصبح، وقال: ﴿والصُّبح إِذا أَسفَر﴾ (10)، وإنّما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر، فالأعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب، ويستولي الظلام على السماء، ويخلد الإنسان إلى الراحة.
وهناك قولان آخران:
أ: المراد عصر الرسول، ذلك لما تضمنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني، إلاّ لمن اتبع الحقّ وصبر عليه، وهم المؤمنون الصالحون عملاً، وهذا يؤكد على أن يكون المراد من العصر عصر النبي "صلى الله عليه وآله وسلم"، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري وظهور الحقّ على الباطل.
ب: المراد به وقت العصر، وهو المروي عن مقاتل، وإنّما أقسم بها، لفضلها بدليل، قوله: ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى﴾  (11) كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ﴾ (12) هو صلاة العصر.
أضف إلى ذلك أنّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار، فهي كالتوبة يختم بها الأعمال.
ولا يخفى أنّ القول الأخير في غاية الضعف، إذ لا صلة بين القسم بصلاة العصر والمقسم عليه، أعني ﴿الإنْسان لفي خُسر﴾ على أنّه لو كان المقسم به هو صلاة العصر، لماذا اكتفى بالمضاف إليه، وحذف المضاف مع عدم توفر قرينة عليه، ومنه يظهر حال الوجه المتقدّم عليه.
والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى، حيث إنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب، أي خسران الإنسان في الحياة، كما سيوافيك بيانه.
وأمّا المقسم عليه، فهو قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْر﴾ والمراد من الخسران هو مضي أثمن شيء لديه وهو عمره، فالإنسان في كلّ لحظة يفقد رأس ماله بنحو لا يُعوَّض بشيء أبداً، وهذه هي سنة الحياة الدنيوية حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت، فأي خسران أعظم من ذلك.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فأوضح من أن يخفى، لأنّ حقيقة الزمان حقيقة متصرّمة غير قارة، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً، وهكذا الحال في عمر الإنسان فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج.
ثمّ إنّه سبحانه استثنى من الخسران من آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق وتواصى بالصبر.
ووجه الاستثناء واضح. لاَنّه بدّل رأس ماله بشيء أغلى وأثمن، يستطيع أن يقوم مقام عمره المنقضي فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة، حافلة برضوانه سبحانه، ونعمه المادية والمعنوية.
يقول سبحانه:  ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتلونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوراةِ وَالإِنْجيلِ وَالقُرآنِ وَمَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوزُ الْعَظيم﴾. (13)
1- التوبة:111.
2- العصر:1ـ2.
3- يوسف:36.
4- يوسف:49.
5- النبأ:14.
6- البقرة:266.
7- مفردات القرآن،مادة عصر و مجمع البيان:5|535.
8- الكشاف:3|357.
9- تفسير الفخر الرازي:32|85.
10- الضحى:1ـ2.
11- المدثر:34.
12- البقرة:238.
13- المائدة:106.
                    
                        الهداية والإضلال                    
                    
                        الشيخ شفيق جرادي
                    
                        حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (5)                    
                    
                        محمود حيدر
                    
                        كيف ننمّي الذكاء الاجتماعي في أولادنا؟                    
                    
                        السيد عباس نور الدين
                    
                        الذنوب التي تهتك العصم                    
                    
                        السيد عبد الأعلى السبزواري
                    
                        كلام في الإيمان                    
                    
                        السيد محمد حسين الطبطبائي
                    
                        شكل القرآن الكريم (1)                    
                    
                        الدكتور محمد حسين علي الصغير
                    
                        الإسلام أوّلاً                    
                    
                        الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
                    
                        لا تجعل في قلبك غلّاً (2)                    
                    
                        السيد عبد الحسين دستغيب
                    
                        معنى (لمز) في القرآن الكريم                    
                    
                        الشيخ حسن المصطفوي
                    
                        التحسس الغلوتيني اللابطني لا علاقة له بمادة الغلوتين بل بالعامل النفسي                    
                    
                        عدنان الحاجي
                    
                        اطمئنان                    
                    
                        حبيب المعاتيق
                    
                        الحوراء زينب: قبلة أرواح المشتاقين                    
                    
                        حسين حسن آل جامع
                    
                        أيقونة في ذرى العرش                    
                    
                        فريد عبد الله النمر
                    
                        سأحمل للإنسان لهفته                    
                    
                        عبدالله طاهر المعيبد
                    
                        خارطةُ الحَنين                    
                    
                        ناجي حرابة
                    
                        هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال                    
                    
                        أحمد الرويعي
                    
                        وقف الزّمان                    
                    
                        حسين آل سهوان
                    
                        سجود القيد في محراب العشق                    
                    
                        أسمهان آل تراب
                    
                        رَجْعٌ على جدار القصر                    
                    
                        أحمد الماجد
                    
                        خذني                    
                    
                        علي النمر
                    
                        الهداية والإضلال
                    
                        حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (5)
                    
                        كيف ننمّي الذكاء الاجتماعي في أولادنا؟
                    
                        (قضايا مأتميّة) الكتاب الإلكترونيّ الأوّل للشّاعر والرّادود عبدالشهيد الثور
                    
                        مركز (سنا) للإرشاد الأسريّ مشاركًا خارج أسوار برّ سنابس
                    
                        شروق الخميس وحديث حول الأزمات النّفسيّة وتأثيرها وعلاجها
                    
                        نشاط غير عادي في أمعائنا ربما ساعد أدمغتنا أن تنمو أكبر
                    
                        الذنوب التي تهتك العصم
                    
                        (ما بين العواصف والرّمال) إصدار تأمّليّ لحسن الرّميح
                    
                        كلام في الإيمان