قرآنيات

حجّية الدلالة القرآنية (2)


السيد رياض الحكيم ..

نعم قد يبدو من بعض النصوص أنّه لا يمكن الاعتماد على ما يفهمه الإنسان من القرآن إلاّ بعد الرجوع لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)..
منها: صحيحة منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه.. إلى أن قال: وقلت للناس: أليس تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من كان الحجة على خلقه؟ قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجىء والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجالَ بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلاّ بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقّاً... إلى أن قال: فأشهد أنّ علياً (عليه السلام) كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنّ ما قاله في القرآن فهو حق، فقال: "رحمك الله".
ومنها: رواية عبيدة السلماني... فقام عبيدة وعلقمة والأسود وأناس معهم فقالوا: يا أمير المؤمنين فما تصنع بما قد خُبِّرنا به في المصحف؟ فقال: يُسأل عن ذلك آل محمد.
وهناك مجموعة أخرى من النصوص المماثلة.
ولكن التأمّل الدقيق في مجموع الروايات الواردة في الموضوع يوضّح أنّه ليس المقصود عدم الاعتماد على كل ما يفهمه الإنسان من القرآن، وإنما ذلك في نمط من الآيات وفي مستوى معيّن من الفهم فحسب، وذلك أن آيات القرآن على ثلاثة أصناف..


الصنف الأول: هي الآيات الواضحة التي يفهم معناها - ولو فهماً بسيطاً - كل من كانت لديه معرفة باللغة العربية مثل كثير من الآيات المشتملة على تمجيد الله وحمده والثناء عليه، وكذا مجموعة من الآيات الآمرة بالمعروف والداعية إلى الاتصاف بالصفات والخصال الحسنة، والآيات الناهية عن المنكر وتجنّب الظلم والفواحش وذم الخصال السيئة، وكثير من الآيات غيرها.


الصنف الثاني: الآيات التي يفهم معناها العلماء والمتخصصون بالمعارف والعلوم الإسلامية، وهي الآيات التي تتطلب مستوى رفيعاً لمعرفة معناها، وأحيانا آية واحدة تحمل معنى سطحياً يفهمه الناس عامّة ومعنى أعمق لا يدركه إلاّ العلماء والمتخصصون مثل بعض الآيات التي تتحدث عن التوحيد وصفات الله، وبعض المفاهيم المذكورة في القرآن مثل الحكمة، وحبط العمل، والهداية، وغير ذلك.


الصنف الثالث: وهي الآيات الغامضة والتي ترمز إلى معان في غاية الدقة مثل القضاء والقدر، أو تشير إلى الأمور الغيبية مثل عوالم ما بعد الموت أو آيات الأحكام القابلة للنسخ والتخصيص ونحو ذلك، وآيات أخرى كثيرة متعارضة - بظاهرها - فيما بينها، وكذلك المعاني العميقة والدقيقة لكثير من الآيات.


أمّا الصنف الأول من الآيات وأحياناً الفهم البسيط لبعض الآيات الاخرى فلا يحتاج فيه للرجوع إلى أحد حيث يفهمه الناس بشكل عام، كما تدل على ذلك مجموعة من النصوص المتقدم بعضها.
بالإضافة إلى سيرة المسلمين والمؤمنين على مرِّ العصور حيث كانوا يقرؤون القرآن بتمعن وخشوع ويذكّر بعضهم بعضاً بالآيات القرآنية، ومن دون ذلك يتحول القرآن إلى كتاب ألغاز ورموز ويفقد فاعليته وتأثيره بين الناس، ويفقد ميزته البلاغية المعجزة.
ولعل إلى هذا المعنى يشير ابن خلدون بقوله: "إنّ القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه".
أمّا الصنف الثاني فإنّه في متناول العلماء والمتخصصين يغترفون منه ما يمكنهم استيعابه ويفهمون معاني أعمق وأدق مما يفهمه العامّة، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالتمعن في القرآن الكريم والاستفادة القصوى منه وعدم الاكتفاء بالفهم العابر الذي يتحقق لدى كل قارئ عربي.
نعم نحن نعتقد أن من جملة ما يمنح العلماءَ قدرةً على سبر أغوار القرآن، ويقرّبهم من الفهم الصحيح للآيات القرآنية هو رجوعهم إلى أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام) والأنس بمنطقهم والتثقف بعلومهم، لأنّهم قرين القرآن وعديله كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم): "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض".
وأمّا الصنف الثالث فهو الصنف الذي لابد فيه من مراجعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام)، فهم المطّلعون على أسرار كتاب الله العزيز والمحيطون بحدود التشريع حيث يعتبر هذا من جملة مزاياهم التي تميّزوا بها على غيرهم، ولذلك تضمنت كثير من النصوص التي تدعو إلى الرجوع للأئمة(عليهم السلام) بيان أنّهم الراسخون في العلم، وأنّهم العارفون بالتأويل والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك مما يدل على أن ضرورة الرجوع إليهم إنّما هو في هذا النمط الخاص من الآيات أو في نمط خاص من الفهم الأعمق للآيات الكريمة فحسب.
ويؤكد ما ذكرناه من النصوص..

منها: رواية زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال:"تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد، يعرفه الأئمة(عليهم السلام) ".
ومنها: رواية إسماعيل بن جابر عن الصادق (عليه السلام).. إلى أن قال: ثم سألوه (عليه السلام) عن تفسير المحكم من كتاب الله، قال: "أمّا المحكم الذي لم ينسخه شيء فقوله عزّوجل: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات﴾ الآية، وإنّما هلك الناس في المتشابه، لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وراء ظهورهم..." الحديث.
حيث يبدو من الحديث اختصاص الأوصياء بخصوص المتشابه الذي هلك به الناس، وأن الناس في ذلك فقط نبذوا قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم).
ومنها: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهات من القرآن فأجابه - إلى أن قال -: "ثم إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف حسّه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعلمه إلاّ الله وملائكته والراسخون في العلم..." إلخ.
وقد اتضح من خلال ما تقدم أن ما سوى الصنف الثالث يمكن للعالم المتخصص البصير بلغة القرآن وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت(عليهم السلام) أن يفهمه من القرآن الكريم ويستنير بهداه.
وأمّا الصنف الثالث فبعضه مبيّن في النصوص الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت(عليهم السلام)، لكن يجب توخي النصوص المعتبرة التي يمكن الاعتماد عليها. ولا يكفي مجرد ورود الرواية عنهم صلوات الله عليهم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد