الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
قال تعالى: [أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (8) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9) ثم كان عقبة الذين أسائوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون (10)]
في هذه الآيات يقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد، فتبدأ هذه الآيات أولًا على صورة استفهام فتقول: أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى. أي: لو أنهم فكروا جيدًا ورجعوا إلى عقلهم في الحكم ووجدانهم، لكانوا يطلعون جيدًا على هذين الأمرين:
أولًا: إن العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أن الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.
وثانيًا: هذا العالم يمضي إلى الزوال، وحيث أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثًا، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا، وإلا فلا مفهوم لخلق هذا العالم، وهذا الخلق الطويل العريض لا يعقل أن يكون من أجل أيام معدودات في الحياة الدنيا، وبذلك يذعنون بوجود الآخرة!. فعلى هذا يكون التدقيق في نظم هذا العالم وحقانيته دليلًا على وجود المبدأ، والتدقيق في أن هناك "أجلًا مسمى" دليل على المعاد "فلاحظوا بدقة".
لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلًا: وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لكافرون فينكرون لقاء الله. أو إنهم ينكرون المعاد أصلًا، كما نقلنا عن قول المشركين مرارًا في آيات القرآن، إذ كانوا يقولون: أإذا متنا وكنا ترابًا ذلك رجع بعيد إن هذا إلا اختلاق إن هذا لشئ عجاب. إن هذا. . إن هذا. . الخ. . وبتعابير مختلفة " كما ورد في سورة الرعد الآية (5)، وسورة المؤمنون الآية (35)، وسورة النمل الآية (67)، وسورة ق الآية (3) وفي غيرها من السور". أو إنهم لا ينكرون بلسانهم، لكن أعمالهم "ملوثة "ومخزية تدل على أنهم غير معتقدين بالمعاد، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين!. والتعبير بفي أنفسهم لا يعني أن يطالعوا في أسرار وجودهم، كما يدعي الفخر الرازي في تفسيره، بل المراد منه أن يفكروا في داخل أنفسهم عن طريق العقل والوجدان يخلق السماوات والأرض.
والتعبير بالحق له معنيان:
الأول: أن الخلق كان توأما مع الحق والقانون والنظم، والآخر: أن الهدف من الخلق كان بالحق، ولا منافاة بين هذين التفسيرين طبعا[1].
والتعبير بلقاء ربهم هو إشارة إلى يوم القيامة والنشور، حيث تنكشف الحجب، والإنسان يعرف عظمة الله بالشهود الباطنيين. وحيث أن التعبير بأجل مسمى كاشف عن أن هذه الحياة على كل حال لا تدوم، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا، فإن القرآن يضيف في الآية التالية قائلًا: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات أي بالدلائل الواضحات... إلا أنهم أهملوا ذلك، ولووا رؤوسهم، ولم يستسلموا للحق، فابتلوا بعقاب الله الأليم ! وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. في الواقع إن القرآن يشير إلى أمم كانت لهم - في نظر مشركي مكة - عظمة ملحوظة من حيث القدرة والقوة الجسمية والثروة المالية، وكان مصيرهم الأليم يمثل درسًا من العبرة لهؤلاء المشركين. ويمكن أن تكون جملة أثاروا الأرض إشارة إلى حرث الأرض للزراعة والتشجير، أو حفر الأنهار، أو تأسيس العمارات على الأرض، أو جميع هذه الأمور، لأن جملة أثاروا الأرض لها مفهوم واسع يشمل جميع هذه الأمور التي هي مقدمة للعمارة والبناء[2].
وحيث كانت أكبر قدرة - في ذلك العصر - تعني التقدم في الزراعة والرقي الملحوظ من حيث البناء والعمارات، فإنه يتضح رفعة الأمم السالفة وعلوهم على مشركي مكة الذين كانت قدرتهم في هذه المجالات محدودة جدًّا. إلا أن أولئك مع كل قدراتهم حين أنكروا آيات الله وكذبوا الأنبياء، لم يستطيعوا الفرار من مخالب العقاب، فكيف تستطيعون الفرار من عذاب الله؟! وهذا العقاب والجزاء الأليم هو نتيجة أعمالهم المهلكة أنفسهم، إذ ظلموا أنفسهم، ولا يظلم ربك أحدًا.
أما آخر آية من الآيات محل البحث، فتبين آخر مرحلة من كفرهم فتقول: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. أجل، إن الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدًّا يكذب الإنسان فيه آيات الله، وأبعد من ذلك أيضًا إذ يحمل الذنب صاحبه على الاستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات الله، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبدًا، ولا تؤثر فيه أية حكمة وأية آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له. إن نظرة واحدة في صفحات تاريخ كثير من الجناة والبغاة تكشف أنهم لم يكونوا هكذا في بداية الأمر، إذ كان لديهم على الأقل نور إيمان ضعيف يشع في قلوبهم، ولكن ارتكابهم للذنوب المتتابعة سبب يومًا بعد آخر أن ينفصلوا عن الإيمان والتقوى، وأن يبلغوا آخر الأمر إلى المرحلة النهائية من الكفر.
ونلاحظ في خطبة العقيلة زينب (عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية في الشام، النتيجة ذاتها التي أشرنا إليها آنفا... لأنها حين رأت يزيد يسخر بكل شئ ويتكلم بكلمات الكفر وأنشد أشعارًا من ضمنها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
وهذه الكلمات تكشف عن عدم إيمانه بأساس الإسلام، فحمدت زينب الله تعالى وصلت وسلمت على النبي (صلى الله عليه وآله) وقالت: "صدق الله، كذلك يقول: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون". أي إذا أنكرت الإسلام والإيمان هذا اليوم بأشعارك المشوبة بالكفر، وتقول لأسلافك المشركين الذين قتلوا على أيدي المسلمين في معركة بدر: ليتكم تشهدون انتقامي من بني هاشم، فلا مجال للتعجب، فذلك ما قاله الله سبحانه: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون..
ـــــــــ
[1] - في صورة ما لو قلنا بالتفسير الأول، فإن " الباء " في كلمة " بالحق " للمصاحبة، وفي التفسير الثاني تكون الباء بمعنى اللام، أي للحق
[2] - "آثار" مأخوذة من مادة (ثور) على زنة (غور) ومعناها التفريق والنثر، وإنما سمي الثور ثورا لأنه يثير الأرض ويفرقها.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان