قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

الأسوة الحسنة في الكتاب الإلهي


الشّيخ ناصر مكارم الشّيرازيّ ..

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ الأحزاب:21-25.
«الأسوة» تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر، وبتعبير: هي التأسّي والاقتداء، وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصّفة، ومعنى آية: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾ هو: أنّ لكم في النّبيّ صلّى الله عليه وآله تأسيًّا واقتداء جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالاقتداء به واتّباعه أن تُصلحوا أموركم وتسيروا على الصّراط المستقيم.
والطّريف أنّ القرآن الكريم يعتبر هذه الأسوة الحسنة في الآية أعلاه مختصّة بمَن لهم ثلاث خصائص: الثّقة بالله، والإيمان بالمعاد، وأنّهم يذكرون الله كثيراً. إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سببُ وباعث هذه الحركة في الحقيقة، وذِكرُ الله تعالى يعمل على استمراره، إذ لا شكّ أنّ مَن لم يمتلئ قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النّبيّ، وإذا لم يُدِمْ ذكرَ الله ويعمر قلبه به أثناء استمراره في هذا الطّريق، ويُبعد الشياطين عنه، فسوف لا يكون قادراً على إدامة التّأسّي والاقتداء.

بعد ذكر هذه المقدّمة تطرّقت الآية التّالية إلى بيان حال المؤمنين الحقيقيّين، فقالت: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾. ولكن ما هذا الوعد الذي كان الله ورسوله قد وعدَهم به؟
قال البعض: إنّه إشارة إلى الكلام الذي كان رسول الله قد تكلّم به من قبلُ بأنّ قبائل العرب ومختلِف أعدائكم سيتّحِدون ضدّكم قريباً ويأتون إليكم، لكن اعلموا أنّ النصر سيكون حليفَكم في النّهاية، فلمّا رأى المؤمنون هجوم الأحزاب أيقنوا أنّ هذا ما وعدهم به رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وقالوا: ما دام الجزء الأوّل من الوعد قد تحقّق، فمن المسلّم أنّ جزأه الثّاني - أي النّصر - سيتحقّق بعده، ولذلك زاد إيمانُهم وتسليمُهم.
وقال البعض الآخر: إنّ هذا الوعد هو ما ذكره الله سبحانه في الآية 214 من سورة البقرة حيث قال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ..﴾. أي إنّهم قيل لهم من قبل: إنّكم ستخضعون لامتحان عسير، فلمّا رأوا الأحزاب تيقّنوا صدقَ إخبار الله ورسوله، وزاد إيمانهم وتسليمهم. ومن الطّبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان، خاصّة بملاحظة أنّ أحد الوعدَين كان في الأساس وعدَ الله، والآخر وعد الرّسول، صلّى الله عليه وآله، وقد جاءا معاً في الآية مورد البحث، ويبدو أنّ الجمع بينهما مناسب تماماً.


المتأسّون الحقيقيّون
وتشير الآية التّالية (23) إلى فئة خاصّة من المؤمنين، وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنّبيّ، صلّى الله عليه وآله، من الجميع، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا اللهَ به، وهو التّضحية في سبيل دينه حتّى النَّفَس الأخير، وإلى آخر قطرة دم، فتقول: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ..﴾، من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه ﴿..وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. إنّهم لم ينحرفوا قيد أنملة عن خطّهم، ولم يألوا جهداً في سبيل الله، ولم يتزلزلوا لحظة، بعكس المنافقين أو ضعاف الإيمان الذين بعثرتْهم عاصفة الحوادث هنا وهناك، وأفرزت الشّدائد في أدمغتهم الخاوية أفكاراً جوفاء خبيثة.
إنّ لفظة «نَحْب» على زنة «عهد» تعني العهد والنّذر والميثاق، ووردت أحياناً بمعنى الموت، أو الخطر، أو سرعة السّير، أو البكاء بصوت مرتفع. وهناك اختلاف بين المفسّرين في المعنيّ بهذه الآية.

يروي العالم المعروف (الحاكم، أبو القاسم الحسَكاني) - وهو من علماء السّنّة - بسندٍ عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال: «فينا نزلتْ ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾، فأنا - والله - المنتظِر وما بدّلتُ تبديلاً»، (ومنّا رجال قد استُشهدوا من قبلُ كحمزةَ سيّد الشّهداء).
وقال آخرون: إنّ جملة ﴿.. مَنْ قَضَى نَحْبَهُ..﴾ إشارةٌ إلى شهداء بدر وأُحُد، وجملة: ﴿.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ..﴾ إشارة إلى المسلمين الصّادقين الآخرين الذين كانوا بانتظار إحدى الحُسنيَين: النّصر، أو الشّهادة. ".."
ورُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ جملة: ﴿.. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ..﴾ إشارة إلى حمزة بن عبد المطّلب وباقي شهداء أُحد... ولا منافاة بين هذه التّفاسير مطلقاً، لأنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين استُشهدوا قبل معركة الأحزاب، وكلّ من كان منتظراً للنّصر أو الشّهادة، وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشّهداء وعليّ عليهما السلام، ولذلك ورد في (تفسير الصّافي): أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ مَن أراد الخروج للقتال ودّع الحسين عليه السلام وقال: السلام عليك يا ابن رسول الله. فيجيبه: «وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَنَحْنُ خَلْفَكَ»، ويقرأ: ﴿..فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ..﴾.
ويستفاد من كُتُب المقاتل أنّ الإمام الحسين عليه السلام تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة، وحين بلغه خبر شهادة عبد الله بن يقطر.
ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصّادقين في كلّ عصر وزمان، سواء من ارتدى منهم ثوب الشّهادة في سبيل الله، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع، وكان مستعدّاً للجهاد والشّهادة.

وتُبيّن الآية التّالية النّتيجة النّهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة، فتقول: ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ..﴾، فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب. ومع ذلك، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين، فإنّ الله سبحانه قد فتح أبواب التّوبة أمامهم بجملة: ﴿.. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ..﴾ - إذا تابوا - ووصف نفسه بالغفور والرّحيم: ﴿..إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ليُحيي فيهم الحركة نحو الإيمان، والصّدق، والإخلاص، والوفاء بالتزاماتهم أمام الله، والعمل بمقتضاها.
ولمّا كانت هذه الجملة قد ذُكرت كنتيجة لأعمال المنافقين القبيحة، فإنّ بعض كبار المفسّرين رأى على أساسها بأنّ الذّنب الكبير في القلوب التي لها قابلية الهداية ربّما كان دفعاً للحركة المضادّة والرّجوع إلى الحقّ والحقيقة، وقد يكون الشّرّ مفتاحاً للخير والرّشاد.


خاتمة البحث
وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات - التي تتحدّث عن غزوة الأحزاب - خلاصةً واضحة لهذه الواقعة في عبارة مختصرة، فتقول في الجملة الأولى: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا..﴾.
الغيظ يعني (الغضب) ويأتي أحياناً بمعنى (الغمّ)، وهنا جاء مزيجاً من المعنيَين، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للانتصار على جيش الإسلام، لكنّها خابت، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.
والمراد من «الخير» - هنا - الانتصار في الحرب، ولم يكن انتصار جيش الكفر خيراً أبداً، بل إنّه شرّ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرّية عبّر عنه بـ «الخير»، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.
وقال البعض: إنّ المراد من «الخير» هنا (المال)، لأنّ هذه الكلمة أُطلقت في مواضع أخرى بهذا المعنى، ومن جملتها ما في آية الوصية الـ 180 من سورة البقرة: ﴿..إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ..﴾. لكن ومع أنّ أحد الأهداف الأصليّة لمعسكر الكفر كان الحصول على غنائم المدينة والإغارة على هذه الأرض، وهذا الباعث كان أهمّ البواعث في عصر الجاهلية، إلّا أنّنا لا نمتلك الدليل على حصر معنى (الخير) هنا بالمال، فهو يشمل كلّ الانتصارات التي كانوا يطمحون إليها، وكان المال أحدَها، وقد حُرموا من الجميع.
وتضيف الآية في الجملة التّالية: ﴿..وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ..﴾ فقد هيّأ عواملَ بحيث انتهت الحرب من دون حاجة إلى التحام واسع بين الجيشَين، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الله تعالى قد ألقى الرّعب والخوف في قلوبهم من جنود الله التي لا تُرى، ومن جهة ثالثة فإنّ الضّربة التي أنزلها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بأكبر بطل من أبطالهم، وهو «عمرو بن عبد ودّ»، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم، ودفعتهم إلى أن يُلملموا أمتعتَهم ويتركوا محاصرة المدينة، ويرجعوا إلى قبائلهم تَقدُمُهم الخيبة والخسران.

وتقول الآية في آخر جملة: ﴿..وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾، فمن الممكن أن يوجد أناس أقوياء، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يُقهرون، بل هناك من يقهرُهم ومن هو أقوى منهم، إلّا أنّ القوي العزيز الوحيد في الوجود هو الله عزّ وجلّ الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا انتهاء، فهو الذي أنزل على المؤمنين النّصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّاً بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النّزال وتقديم التّضحيات!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد