الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ المؤمنون: 102-103.
كثُر الكلام بين المفسِّرين والمتكلِّمين حول كيفيَّة وَزْن الأعمال يوم القيامة. وحيث إنَّ البعض تَصَوَّر أنَّ وَزْن الأعمال وميزانها في يوم القيامة يُشبه الوَزْن والميزان المُتعارَفَين في هذه الحياة، ومن جانب آخر ليس للأعمال البشريّة وَزْن، وخِفَّة وثِقْل يُمكن أن يُعرف بالميزان- فقد تصوّر البعض- أنَه لابدَّ من حلِّ هذه المشكلة عن طريق فكرة تَجَسُّم الأعمال، أو عن طريق أنَّ الأشخاص أنفسهم يوزَنون بدل أعمالهم في ذلك اليوم.
من ذلك ما رُوي عن «عبيد بن عمير» أنَّه قال: «يُؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يَزِن جناح بعوضة»، إشارة إلى أنَّ أولئك الأشخاص كانوا في الظاهر أصحاب شخصيّات كبيرة، وأمّا في الباطن فلم يكونوا بشيء.
ولكن لو تركنا مسألة المُقارَنة والمُقايَسة بين الحياة في ذلك العالم والحياة في هذا العالم، وعلِمنا بأنَّ كلّ شيء في تلك الحياة يَختلف عمَّا هو عليه في حياتنا هذه، تماماً مثلما تختلف أوضاع الفترة الجَنينيَّة عن أوضاع الحياة الدُّنيا، وعَلِمنا -أيضاً- أنَّه ليس من الصحيح أن نبحث -في فهم معاني الألفاظ- عن المصاديق الحاضرة والمعيَّنة دائماً، بل لابُدَّ أن ندرس المفاهيم من حيث النتائج، اتّضحت وانحلَّت مشكلة «وزن الأعمال في يوم القيامة».
«السلامُ على ميزان الأعمال»
عندما كنّا نتلفّظ فيما مَضى من الزَّمن بِلَفظ المصباح، كان يَتبادر إلى ذهننا صورة وِعاء خاصّ فيه شيء من الزَّيت، نُصِبَ فيه فتيلٌ من القطن. وربّما تصوّرنا زجاجة وُضِعت على النّار لتحفظها من الإنطفاء بسبب الرِّياح، على حين يَتبادر من لَفْظ المصباح إلى ذهننا اليوم جهازٌ خاصّ لا مكان فيه للزَّيت، ولا للفتيل. أمَّا ما يَجمع بين مصباح الأمس ومصباح اليوم، فهو الهدف من المصباح، والنتيجة المُتوخّاة أو المُتحصِّلة منه، يعني الأداة التي تُزيل الظلمة.
الأمر في قضيّة «الميزان» على هذا الغِرار، بل وفي هذه الحياة ذاتها نرى كيف أنَّ الموازين تَطوَّرت مع مرور الزمن تطوُّراً كبيراً، حتى أنّه بات يُطلَق لفظ الميزان على وسائل التَّوْزين الأخرى، مثل مقياس الحرارة، ومقياس سرعة الهواء وأمثال ذلك.
إذاً، فالمُسلَّم هو أنَّ أعمال الإنسان توزَن في يوم القيامة بأداة خاصّة، لا بواسطة موازين مثل موازين الدُّنيا، ويُمكن أن تكون تلك الأداة نفس وجود الأنبياء والأئمّة والصالحين، وهذا ما يُستفاد -أيضاً- من الأحاديث المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام. ففي (بحار الأنوار) ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿ونضعُ الموازين القسط..﴾ الأنبياء:47، أنّه قال: «والموازين الأنبياء، والأوصياء، ومن الخَلق مَن يَدخل الجنَّة بغير حساب».
وجاء في رواية أخرى: إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريّته عليهم السلام هم المَوازين. ونقرأ في إحدى زيارات الإمام أمير المؤمنين المُطلَقة: «السلام على ميزان الأعمال».
والمعنى أنّ قيمة الأعمال وشخصيّة الأفراد ستُقاس بمقياسٍ يكون مركزُه شخصيّاً الإمام العظيم، وبمقدار مشابهة الإنسان لسلوك هذا الإمام العظيم واقترابه منه سيكون له وزن أكثر، وبمقدار بُعدِه عنه سيكون خفيفاً في ميزان أعماله وحسابه، ومن خلال هذا المعنى نفهم ماذا يعني ميزان الأعمال هناك.
لماذا «موازين» بصيغة الجمع؟
وفي الحقيقة أنَّ الرجال والنساء النموذجيّين في العالم هم مقاييس لِتَقييم أعمال العباد، فكلُّ مَنْ شابَهَهُم كان له وَزْن بمقدار مشابهته لهم، ومَنْ بَعُد عنهم كان خفيف الوَزْن، أو فاقد الوَزْن من الأساس.
بل إنَّ أولياء الله في هذا العالم هم أيضاً مقاييس للوَزْن والتقييم، ولكن حيث إنَّ أكثر الحقائق في هذا العالم تبقى خلف حُجُب الإبهام والغُموض، تَبرز في يوم القيامة بمقتضى قوله تعالى: ﴿..وبرزوا لله الواحد القهار﴾ إبراهيم:48، وتَنكشف هذه الحقائق وتَنجلي لِلعَيان.
ومن هنا يتَّضح لماذا جاء لفظ الميزان في الآية بصيغة الجَمْع: «الموازين»، لأنَّ أولياء الله الذين يُوزَن بهم الأعمال متعدِّدون. ثمَّ إنَّ هناك احتمالاً آخر أيضاً، وهو أنَّ كلَّ واحد منهم كان متميِّزاً في صفة معيّنة، وعلى هذا يكون كلّ واحد منهم ميزاناً للتقييم في إحدى الصِّفات والأعمال البشريّة، وحيث إنَّ أعمال البشر وصفاتهم مختلفة، لهذا يجب أن تكون المعايير والمقاييس متعدِّدة.
يتَّضِح أنَّ ما جاء في بعض الروايات والأخبار، مثل ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سألوه: ما معنى الميزان؟ قال: «العدل»، لا يُنافي ما ذكرناه، لأنَّ أولياء الله، والرجال والنساء النموذجيّين في هذا العالم هم مَظاهر للعدل من حيث الفِكْر، والعدل من حيث العقيدة، والعدل من حيث الصفات والأعمال (تأمّل). ثمَّ إنَّه تعالى يقول في المقطع الآخر من الآية: ﴿..فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون*ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون﴾ الأعراف:8-9.
الخِفَّة والثِّقل في قيمة الأعمال
إنَّ من البديهي أنَّ المُراد من الخِفَّة والثِّقل في الموازين ليس هو خِفَّة وثِقل نفس الميزان، بل قيمة ووزن الأشياء التي تُوزَن بواسطة تلك المَوازين، وتُقاس بتلك المقاييس. ثمّ إنَّ في التعبير: ﴿خسروا أنفسهم﴾ إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي أنَّ هؤلاء قد أُصيبوا بأكبر الخسارات، لأنَّ الإنسان قد يخسر ماله، أو منصبه، ولكنَّه قد يخسر أصل وجوده من دون أن يحصل على شيءٍ في مقابل ذلك، وتلك هي الخسارة الكبرى، والضَّرَر الأَعظم.
إنَّ في التعبير بـ ﴿كانوا بآياتنا يظلمون﴾ في آخر الآية إشارة إلى أنَّ مثل هؤلاء لم يَظلموا أنفسهم فحسب، بل ظَلموا -كذا- البرامج الإلهيّة الهادِيَة، لأنَّ هذه البرامج كان ينبغي أن تكون سُبُلاً للهداية ووسائل للنَّجاة، ولو أنَّ أحداً تَجاهلها، ولم يَكترِث لها، فلم يحصل منها هذا الأَثَر، كان ظالماً لها.
وقد جاء في بعض الروايات والأخبار أنَّ المُراد من الآيات هنا هم أئمّة الهُدى عليهم السلام، على أنَّ هذا النَّمَط من التفسير لا يعني حَصْر مفهوم الآية فيهم صلوات الله عليهم، بل هم المَصاديق الأتمّ والأَظهر للآيات الإلهيّة. هذا، وفسَّر بعض المُفسِّرين الظُّلم في الآية بالكفر والإنكار، وهذا المعنى ليس بعيداً عن مفهوم الظُّلم، إذ قد وَرَد الظُّلم في بعض الآيات القرآنيّة الأخرى بهذا المعنى.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان