الملّا فتح الله الكاشانيّ
﴿والْفَجْرِ﴾: أَقسَم بمطلق الصّبح في الأيّام، كما أَقسم في قوله: ﴿والصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ﴾المدّثّر:34، أو بمطلق فلقه، كقوله: ﴿والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ﴾ التّكوير:18، أو بصلاة الفجر، أو بفجر يوم النّحر، أو بفجر عرفة، أو فجر أوّل ذي الحجّة، أو فجر أوّل المحرّم.
﴿وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾: عشر ذي الحجّة، وقيل: عشر رمضان الأخير. ولأنّها ليالٍ مخصوصة من بين جنس اللّيالي العشر، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، وقعت منكّرة من بين ما أقسم به. ولو عُرّفت بلام العهد، لم تستقلّ بمعنى الفضيلة الَّذي في التّنكير، فإنّ التّنكير للتّعظيم والتّفخيم.
﴿وَالشَّفْعِ والْوَتْرِ﴾: أي، والأشياء كلَّها، شفعها ووترها. أو الخلْق، لقوله: ﴿ومِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ..﴾ الذّاريات:49، والخالق، لأنّه فرد. أو الوتر آدم، شُفّع بزوجته. أو الشّفع الأيّام، والوتر اليوم الَّذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة. أو الشّفع عليّ وفاطمة عليهما السّلام، والوتر محمّد صلَّى الله عليه وآله. أو الصّفا والمروة، والوتر البيت.
﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ﴾: إذا يمضي، كقوله: ﴿واللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ المدّثّر:33. وأصلُه: يسري، حُذفت الياء اكتفاءً بالكسرة تخفيفاً. والتّقييد بذلك، لما في التّعاقب من قوّة الدّلالة على كمال القدرة ووفور النِّعم.
﴿هَلْ فِي ذلِكَ﴾: الإقسام، أو المقسم به ﴿قَسَمٌ﴾: حلف، أو محلوف به ﴿لِذِي حِجْرٍ﴾: يعتبره ويعظم بالإقسام به، ويؤكّد به ما يريد تحقيقه. والحِجر: العقل. سمّي به لأنّه يحجر عمّا لا ينبغي. والمعنى: أنّ مَن كان ذا لُبٍّ علِم أنّ ما أقسم اللهُ به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله، توضح عن عجائب صنعه وبدائع حكمته.
والمقسم عليه محذوف، وهو: «لَيُعَذَّبَنَّ». يدلّ عليه قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ﴾. الخطاب للنّبيّ صلَّى الله عليه وآله. وفيه تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالأمم السّابقة لمّا كفرت بالله وبأنبيائه، وكانت أطول أعماراً وأشدّ قوّة. وعادٌ قوم ثمود، سُمّوا باسم أبيهم، كما سمّي بنو هاشم باسمه. وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.
﴿إِرَمَ﴾: عطف بيان لـ«عاد» إيذاناً بأنّهم عادٌ الأولى القديمة. وهذا على تقديرٍ مُضاف، أي: سبط إرَم، أو أهل إرَم، إن صحّ أنّه اسم بلدتهم. ومُنع صرفُه للعَلَميّة والتّأنيث، باعتبار القبيلة أو البلدة.
﴿ذاتِ الْعِمادِ﴾: ذات البناء الرّفيع، أو القدود الطّوال. ومنه قولهم: رجل مُعَمّد إذا كان طويلاً. ورجل طويل العماد، أي القامة. أو ذات الرّفعة والثّبات.
﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ﴾: صفة أخرى لـ«إرَم»، والضّمير لها، سواء جُعلت اسم القبيلة أم البلدة. والمعنى: لم يُخلق مثلُ عادٍ في جميع بلاد الدّنيا عِظمَ أجرام وقوّة، أو لم يُخلق مثلُ مدينة إرم في جميع بلاد الدّنيا.
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ﴾: قطعوا صخر الجبال واتّخذوا فيها بيوتاً ومنازل، لقوله:﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً..﴾ الشّعراء:149.
﴿بِالْوادِ﴾: وادي القُرى. قيل: أوّل مَن نَحَت الجبال والصّخور والرّخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلَّها من الحجارة.
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتادِ﴾: لكثرة جنوده ومضاربهم الَّتي كانوا يضربونها بالأوتاد إذا نزلوا. أو لتعذيبه بالأوتاد، كما رُوي عن ابن مسعود ومجاهد: كان يَشدّ الرّجل بأربعة أوتادٍ على الأرض إذا أرادَ تعذيبه، ويَتركه حتّى يموت.
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ﴾: صفة للمذكورين: عاد، وثمود، وفرعون.
﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ﴾: بالكفر، والظّلم على العباد.
﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ﴾: ما خلط لهم من أنواع العذاب. وإنّما سمّي به [السّوط] الجلد المضفور الَّذي يُضرب به، لكونه مخلوط الطّاقات بعضها ببعض. وقيل: شبّه بالسّوط ما أحلّ بهم من العذاب العظيم في الدّنيا، إشعاراً بأنّه القياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب، كالسّوط إذا قيس إلى السّيف.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾: المكان الَّذي يُترقّب فيه الرّصد. وهو تمثيلٌ لإرصادِ الله تعالى العُصاة بالعقاب بحيث إنّهم لا يفوتونه. وعن الصّادق عليه السّلام: «أنّ المرصاد قنطرة على الصّراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد».
ثمّ وصل بقوله: «لَبِالْمِرْصاد» قوله:
﴿فَأَمَّا الإِنْسانُ﴾: كأنّه قيل: إنّ الله تعالى لا يريد من الإنسان إلَّا الطّاعة والسّعي للعاقبة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي، فأمّا الإنسان فلا يريد ذلك، ولا يهمّه إلَّا العاجلة وما يلذّه وينعّمه فيها، لأنّه ﴿إِذا مَا ابْتَلاه رَبُّه﴾: اختبره بالغِنى واليُسر، ﴿فَأَكْرَمَه ونَعَّمَه﴾: بالجاه والمال، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾: بما أعطاني، إترافاً والتذاذاً ومرحاً واختيالاً بلا مقابلته بالشّكر.
﴿وأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاه فَقَدَرَ عَلَيْه رِزْقَه﴾: بالفقر والتّقتير، ليوازن قسيمه.
﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ﴾: لقُصورِ نظره وسُوءِ فكره، فإنّ التّقتير قد يؤدّي إلى كرامة الدّارَين، إذ التّوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء والانهماك في حبّ الدّنيا، ولذلك ذمّه على قوليه وردَعه عنه بقوله: ﴿كَلَّا﴾.
ثمّ بيّن سبحانه أسوأ فعله الَّذي يستحقّ به الهوان، فقال: ﴿بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ أي: بل فعْلُهم أسوأ من قولهم، وأدلّ على تهالكهم على المال، وهو أنّ الله يكرمهم بكثرة المال، وهم لا يكرمون اليتيم بالتّفقّد والمبرّة. وخصّ اليتيم لأنّه لا كافل له يقوم بأمره، وقد قال صلَّى الله عليه وآله: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة». وأشار بالسبّابة والوسطى.
﴿وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ﴾: ولا يحثّون أهلهم على طعام المسكين فضلاً عن غيرهم.
﴿وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا﴾: ذا لمّ، أي: جمع بين الحلال والحرام، فإنّهم كانوا لا يورّثون النّساء والصّبيان، ويأكلون أنصباءهم من الميراث. أو تأكلون ما جمعه المورِّث من حلال وحرام عالِمِين بذلك، فتجمعون في الأكل بين حرامه وحلاله.
ويجوز أن يُذمّ الوارث الَّذي ظفر بالمال سهلاً مهلاً من غير أن يعرق جبينه، فيُسرِف في إنفاقه، ويأكله أكلاً واسعاً، جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة، والأشربة، والفواكه، كما يفعل الوُرّاث البطَّالون.
﴿وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا﴾: كثيراً شديداً مع الحرص والشَّرَه ومنْع الحقوق.
﴿كَلَّا﴾: ردعٌ لهم عن ذلك وإنكارٌ لفعلهم. ثمّ أتى بالوعيد وذكَر تحسّرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة، فقال: ﴿إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾: دكّا بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدّكّ، فكسر ودقّ كلّ شيء على ظهرها، من جبالٍ، وتلالٍ، وأبنيةٍ، وأشجارٍ وغير ذلك، فلم يبقَ عليها شيءٌ حتّى صارت هباءً منبثّاً.
﴿وَجاءَ رَبُّكَ﴾: أي، ظهرت آياتُ قدرته، وآثارُ قهرِه وهيبتِه. فمثّل ذلك بحال السّلطان إذا حضر بنفسه، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسّياسة ما لا يظهر بحضور وزرائه وخواصّه وجميع عساكره. وقيل: جاء أمرُ ربِّك وقضاؤه ومحاسبته. وقيل: معناه: وزالت الشّبهة وارتفع الشّكّ، كما يرتفع عند مجيء الشّيء الَّذي كان يُشكّ فيه. وليس المعنى على ظاهره، لقيام البراهين القاهرة والدّلائل الباهرة على أنّه سبحانه ليس بجسم، فجلّ وتقدّس عن المجيء والذّهاب.
﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾: بحسب منازلهم ومراتبهم. يعني: تنزِل ملائكة كلّ سماء، فيصطفّون صفّاً بعد صفّ محدقين بالجنّ والإنس.
﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾: كقوله: ﴿وبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ..﴾ الشّعراء:91، روي مرفوعاً عن أبي سعيد الخدريّ: «أنّها لمّا نزلت تغيّر وجه رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وعُرف في وجهه، حتّى اشتدّ على أصحابه، فأخبروا عليّاً عليه السّلام، فجاء فاحتضنه من خلفه، وقبّله بين عاتقَيه. ثمّ قال: يا نبيّ الله، بأبي أنت وأمّي ما الَّذي حدث اليوم؟ وما الَّذي غيَّرك؟ فتلا عليه الآية. فقال عليّ عليه السّلام: كيف يُجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملَك، يقودونها بسبعين ألفَ زمام، فتشرد شردة لو تُركت لأحرقت أهل الجمع. ثمّ أتعرّضُ لجهنّم فتقول: ما لي وما لك يا محمّد، فقد حرّم اللهُ لحمَك عليّ، فلا يبقى أحدُ إلَّا قال: نفسي نفسي، وإنّ محمّداً يقول: ربّ أمّتي أمّتي».
﴿يَوْمَئِذٍ﴾: بدل من «إذا دُكّت». والعاملُ فيها ﴿يَتَذَكَّرُ الإِنْسانُ﴾: أي، يتذكّر معاصيه، أو يتّعظ، لأنّه يعلم قبحها فيندم عليها. ﴿وأَنَّى لَه الذِّكْرى﴾: أي، ومن أين له منفعة الذّكرى؟ على تقديرٍ مضاف، لئلَّا يناقض ما قبله.
﴿يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾: أي، لحياتي هذه، وهي حياة الآخرة. أو وقت حياتي في الدّنيا أعمالاً صالحة، كقوله: جئتُه لعشر ليالٍ خلَون من رجب.
وهذا أبيَنُ دليل على أنّ الاختيار كان في أيدي المكلَّفين، ومعلَّقاً بقصدهم وإرادتهم، وأنّهم لم يكونوا محجوبين عن الطّاعات، مجبَرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء والبِدَع، وإلَّا فما معنى التّحسُّر؟
﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَه أَحَدٌ ولا يُوثِقُ وَثاقَه أَحَدٌ﴾: الضّمير لله، أي: لا يتولَّى عذابَ الله ووثاقه يوم القيامة سواه، إذ الأمرُ كلُّه لله في ذلك اليوم. أو للإنسان، أي: لا يعذِّب أحد من الزّبانية مثل ما يعذّبه الإنسان، ولا يوثَق بالسّلاسل والأغلال وثاق أحد منهم، لتناهيه في كفره وعناده. والضّمير للإنسان. وقيل: هو أُبيّ بن خلَف، أي: لا يعذّب أحدٌ مثلَ عذابه، ولا يوثق أحدٌ مثل وثاقه. والمعنى: لا يحمّل عذاب الإنسان أحد، كقوله: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ الأنعام:164.
وبعد ذكر الوعيد، بيَّن الوعدَ للأبرار، فقال:
﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾: على إرادة القول، أي: قال الله لها كما كلَّم موسى عليه السّلام، أو قاله على لسان ملَك، وهي الَّتي اطمأنّتْ بذكر الله، فإنّ النّفس تترقّى في سلسلة الأسباب والمسبّبات إلى الواجب لذاته، فتستقرّ دون معرفته، وتستغني به عن غيره. أو المطمئنّة إلى الحقّ الَّتي سكّنها ثلج اليقين، فلا يخالجها شكّ. وهي النّفس المؤمنة الموقنة المصدّقة بالبعث. أو الآمنة الَّتي لا يستفزّها خوفٌ ولا حزن.
﴿ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ﴾: إلى أمره، أو موعده بالموت. وهذا الخطاب إمّا عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنّة. ﴿راضِيَةً﴾: بما أوتيت ﴿مَرْضِيَّةً﴾: عند الله.
﴿فَادْخُلِي فِي عِبادِي﴾: في جملة عبادي الصّالحين، وانتظمي في سلكهم، ﴿وادْخُلِي جَنَّتِي﴾: معهم، أو في زمرة المقرّبين، فتستضيء بنورهم، فإنّ الجواهر القدسيّة كالمرايا المتقابلة، أو ادخلي في أجساد عبادي الَّتي فارقت عنها، وادخُلي دارَ ثوابي الَّتي أُعدّت لك.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم