الشيخ جعفر السبحاني
الغيب في اللغة العربية يقابل الحضور، ويضاد الشهود. قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ (الرعد: 9).
وفي الحديث النبوي: «لِيُبلّغ الشاهدُ الغائبَ» [مسند أحمد، ج4، ص31 و32. ومواضع كثيرة أُخرى].
وفي كلام علي عليه السَّلام: «وَنَصحتُ لكم فلم تقبلوا، أَشُهودٌ كغُيّاب، وعَبيدٌ كأَرباب» [نهج البلاغة، الخطبة 97].
وأُصول المغيبات في القرآن ترجع إلى ثلاثة:
الأول: الإخبار عن الله سبحانه، وأسمائه وصفاته، والإخبار عن الملائكة والجن وعالم البرزخ والمعاد وما فيه من نعيم أو جحيم، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية، الّتي لا يتعرّف عليها الحسّ، ولا تقع في أُفقه في هذا الظرف.
الثاني: الإخبار عن بعض النواميس السائدة على الكون، وقد كانت مغيّبة، عند نزول الوحي، عن إدراك الحواس المجرّدة عن الأدوات المخترعة في هذا الزمان، وهذا ما نبحث عنه في المقام التالي، وهو إعجاز القرآن من جهة المعارف الكونية المستكشفة حديثاً.
الثالث: الإخبار عن أُمم قد خلت من قبل وطويت صفحات حياتها، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى آثار مساكنهم ومواطنهم، من دون مراجعة إلى كتب السير والتاريخ، أو سؤال الكهنة والمؤرخين، وهي القَصص الواردة في القرآن الكريم، الّتي تشكّل قسماً وافراً من الآيات القرآنية.
وهناك قسم آخر من هذا، وهو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره، والإخبار بملاحم وفتن وأحداث ستقع في مستقبل الزمن، وهذا ما نتبناه في هذا المقام.
إنّ الإخبار عن المغيبات وعن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره، وما يلم به من ملاحم وفتن، إن دَلَّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتاباً سماوياً أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الذين ارتضاهم من البشر، لأنّه أخبر عن حوادث كان التَكَهُّن والفراسة يقتضيان خلافها، وصَدَق هو في جميع ما أخبر به، ولم يخالف الواقع في شيء منها. ونحن نأتي هنا بقسم من تلك الإخبارات، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة، أو على كونها على غرار إخبار الكهنة والعرّافين والمنجمين. فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم. على أنّ دَأبهم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز وكنايات وإشارات، حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف ويَقْبَلَ كلامُهم التأويل، وهذا بخلاف إخبار القرآن، فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس ومنطق قاطع، وإليك الأمثلة:
1- التنبّؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن
قال سبحانه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:88) [ولاحظ: سورة البقرة: الآيتان 23-24، سورة يونس: الآية 38، سورة هود: الآية 13].
ترى في هذه الآية ونظائرها التنبّؤ الواثق، بعجز الجن والإنس عن معارضة القرآن عجزاً أبدياً، ولكن المستقبل كما يقال غَيْبٌ، لا يملكه النبيُّ ولا الوصيُّ ولا شخص آخر غيرهما. غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبؤه هذا، ولا يزال صادقاً إلى الحال، فعلى أي مصدر اعتمد هو في هذا التحدي الطويل العريض، غير الإيحاء إليه الذي لم يزل يصدر عنه في اخباره وتشريعه؟
2- التنبّؤ بانتصار الروم على الفرس
قال سبحانه: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:1-6).
ينقل التاريخ أنّ دولة الروم وكانت دولة مسيحية انهزمت أمام دولة الفرس وهي وَثَنيّة، بعد حروب طاحنة بينهما سنة 614 م، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنية، وفرح المشركون، وقالوا للمسلمين بشماتة: إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب وقد غَلَبهم المجوس، وأنْتُم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الّذي أُنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم.
فعند ذاك نزلت هذه الآيات الكريمات تنبئ بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار لهم في بضع سنين، وهي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع. تنبّأَ بذلك، وكانت المقدمات والأسباب على خلافه، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها، كما يدلّ عليه قوله: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾. ولأنّ دولة الفرس كانت دولة قوية، منيعة، وزادها الانتصار الأخير قوة ومنعة. ولكن الله تعالى أنجز وعده، وحقّقَ تنبؤ القرآن، في بضع سنين فانتصر الروم سنة 624 م، الموافقة للسنة الثانية للهجرة.
وفي الآية تنبّؤ آخر، وهو البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون في الوقت الّذي ينتصر الروم فيه، وقد صدق الله وعده حيث وقع في ذلك الظرف ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى، فتحققت النبوءتان في وقت واحد.
3- التنبّؤ بصيانة النبي عن أذى الناس
قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة:67).
روى الفريقان [لاحظ: الغدير، ج 1، ص 194-217. ووقاية المرام، ص 335] أنّ الآية نزلت يوم الغدير حينما أُمر النبي بنصب علي (عليه السَّلام) إماماً للناس، وكان على حَذَر منهم في تنصيب ابن عمّه وصهره للخلافة، فأخبر الله سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس وشرّهم، ولا يتمكّنون من اغتياله، وتحقّق نبأ القرآن، وصدّق الخُبْرُ الخَبَر.
4- التنبّؤ بالقضاء على العدوّ قبل لقائه
قال سبحانه: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ (الأنفال: 7-8).
نزلت الآيتان قبل لقاء المسلمين العدوّ في ساحة المعركة، فأخبر سبحانه عن هزيمة المشركين واستئصال شأفتهم، ومحق قوّتهم، كما يدلّ عليه قوله: ﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ..﴾.
وليس تنبّؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصراً بهذه الآية، بل تنبَّأَ به في آية أُخرى، وهي قوله سبحانه: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر:44-45).
فأخبر عن انهزام الكفّار وفرارهم عن ساحة الحرب، وقد تحقّق التنبّؤ يوم بدر، وكانت المقدّمات والأسباب الطبيعية على خلاف النتيجة، حيث إنّ المشركين كانوا تامِّي العِدّة ووافري العَدَد، ولم يكن عدد المسلمين يتجاوز ثلثَ عدد المشركين، لكنّه سبحانه حقّق كلمته وصَدَّق نَبَأَ نبيِّه.
5- التنبّؤ بكثرة ذُرّية النبي (صلّى الله عليه وآله)
قال سبحانه: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ (الكوثر).
الكوثر هو الخير الكثير، والمراد هنا، بقرينة قوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾، كثرة ذُرِّيته، ويؤيّده أنّ السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يَبْقون على مرّ الزمان.
قال الرازي: «فانظر كم قُتل من أهل البيت، ثم العالَم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُمَيَّة أَحد يعبأُ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء، كالباقر والصادق، والكاظم، والرضا، والنفس الزكية، وأمثالهم» [مفاتيح الغيب، ح 8، ص 498، ط مصر].
هذه نماذج من تنبؤات الذكر الحكيم، أتينا بها ليقف الباحث على معشار ما ورد فيه من التنبّؤات الغيبية [ومن أراد استقصاء تنبّؤات القرآن فليرجع موسوعة «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 377-534].
هذا وقد عرفت أنّ بعض العلماء، خصُّوا إعجاز القرآن بإخباره عن الغيب، غير أنّه غير ظاهر بخصوصه، لأنّ القرآن يتحدّى حتى بسورة واحدة من سوره الكثيرة، ومن المعلوم أنّه ليست كلُّ سورة مشتملة على الأخبار الغيبية.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان