قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

معنى العذاب الدنيوي في القرآن الكريم

 

السيّد محمّد حسين الطباطبائي
يعدّ القرآن الكريم معيشة الإنسان الناسي لربّه «ضنْكاً» وإن اتّسعت في أعيننا كلّ الاتّساع، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا..﴾ طه:124.
ويعدّ الأموال والأولاد عذاباً وإن كنّا نعدّها نعمةً هنيئة، قال تعالى: ﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ التوبة:85.
وحقيقة الأمر:
أولاً: أنّ سرور الإنسان، وغمّه، وفرحه، وحزنه، ورغبته، ورهبته، وتعذّبه، وتنعّمه، كلّ ذلك يدور مدار ما يراه سعادةً أو شقاوة.
ثانياً: أنّ النعمة والعذاب وما يقاربهما من الأمور تختلف باختلاف ما تُنسب إليه؛ فللروح سعادة وشقاوة، وللجسم سعادة وشقاوة، وكذا للحيوان منهما شيء، وللإنسان منهما شيء وهكذا.
والإنسان المادّي الدنيوي الذي لم يتخلّق بأخلاق الله تعالى ولم يتأدّب بأدبه يرى أنّ السعادة المادّية هي السعادة المنشودة، ولا يعبأ بسعادة الروح وهي السعادة المعنوية، فيتعلّق قلبه بالمال والبنين والجاه وبسْط السلطة والقدرة.
وهو يريد بما تقدّم ذكره، من المال والبنين والجاه، الخالصَ من التنعّم واللذّة على ما صوّره له خياله، وإذا ناله رأى الواحدَ من اللذّة محفوفاً بأشكالٍ وأصنافٍ من الألم، وما دام لم ينَلْ ما يريده كان ذلك حسرةً في قلبه، وإذا ناله وجده غيرَ ما كان يريده لِما يرى فيه من النواقص، ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها.
وبما أنّ قلبه لم يتعلّق بأمرٍ - فوق هذه الماديّات -  فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كلّ فائتة، كان ذلك أيضاً حسرةً زائدةً في نفسه، فلا يزال في ما وجده متألّماً به معرضاً عنه طالباً لما هو خيرٌ منه لعلّه يُشفي غليلَ صدره، ولا يزال في ما لم يجده متقلّباً بين الآلام والحسرات، فهذا حاله في ما وجده، وذاك حاله في ما فقده.


مصاديق العذاب في القرآن الكريم
يؤكد القرآن الكريم أنّ الإنسان مؤلّفٌ من روحٍ خالدة وبدنٍ مادّي متحوّلٍ متغيّر، وهو باقٍ على هذه الحال حتّى يرجع إلى ربّه فيتمّ له الخلود من غير زوال.
* فما كان فيه سعادة الروح محضاً، كالعلم ونحو ذلك، فهو من أسباب سعادته.
* وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معاً كالمال والبنين - إذا لم تكن شاغلةً عن ذِكر الله تبارك وتعالى وموجبةً إلى إخلادٍ إلى الأرض - فهو أيضاً من أسباب سعادته، ونعمت السعادة.
* وكذا يؤكّد القرآن المجيد أنّ ما كان فيه شقاء الجسم ونقصٍ في ما يتعلّق بأمور البدن، وسعادةَ الروح الخالدة أيضاً، كالقتل في سبيل الله، وذهاب المال واليسار لله تعالى، فهو أيضاً من أسباب سعادته، وبمنزلة التحمّل لِمُرّ الدواء ساعةً لحيازة الصحّة دهراً.
* وأمّا ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاءٌ للإنسان وعذابٌ له، والقرآن يسمّي سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يُعبأ به، قال تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ آل عمران:196-197.
* وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً، يعدّه القرآن عذاباً، كما يعدّه الناس عذاباً، لكن وجه النظر مختلفة؛ فإنّه عذابٌ عنده تعالى لما فيه من شقاء الروح، وعذابٌ عندهم لما فيه من شقاء الجسم، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الفجر:6-14.
 

مقياس السعادة والشقاء
السعادة والشقاوة لبني البشر يتقوّمان بالشعور والإدراك، فنحن لا نعدّ الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحسّ به سعادةً لأنفسنا، كما لا نعدّ الأمر المؤلم غير المحسوس شقاءً، ومن هنا يظهر أنّ هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادّة والإنسان المولع بالمادّة، لا بدّ من أن يستتبع نوعَ تربيةٍ يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخّصها القرآن سعادة، والشقاوة الحقيقية شقاوة، وهو كذلك، فإنّه يلقّن الذين يتدبّرونه أن لا تتعلّق قلوبهم بغير الله، وأن يستحضروا أنّ ربهم تعالى هو المالك الذي يملك كلّ شيء، فلا يستقلّ شيء إلّا به، ولا يقصَد شيءٌ إلّا له.
وهذا الإنسان المتخلّق بأخلاق القرآن لا يرى لنفسه في الدنيا إلّا السعادة: بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه، وما كان فيه سعادة روحه محضاً، وأمّا ما دون ذلك فإنّه يراه عذاباً ونكالاً.
وأمّا الإنسان المتعلّق بهوى النفس ومادّة الدنيا؛ فإنّه وإن كان ربّما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادةً لنفسه وخيراً ولذّة، فإنّه سوف يطّلع على خَبْطه في مشيه وتنقلب سعادته المظنونة بعينها شقاوةً عليه، قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ المعارج:42.
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ ق:22.
وقال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ..﴾ النجم:29-30. على أنّهم لا يصفو لهم عيش إلّا وهو منغّص بما يربو عليه من الغمّ والهمّ.
ومن هنا يظهر أنّ الإدراك والفكر الموجود في أهل الله، وخاصّة القرآن، غيرهما في غيرهم، مع كونهم جميعاً من نوعٍ واحد، هو الإنسان، وبين الفريقين درجاتٌ من أهل الإيمان ممّن لم يستكملوا التعليم والتربية الإلهيّين.
فهذا ما يتحصّل من كلامه تعالى في معنى العذاب، وكلامُه تعالى مع ذلك لا يستنكفُ عن تسمية الشقاء الجسمانيّ عذاباً، لكنْ غايته أنّه عذابٌ في مرحلة الجسم دون الروح. قال تعالى حكاية عن أيوب عليه السلام: ﴿..أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ ص:41.
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ الأعراف:141. فسمّى ما يصنعون بهم بلاءً وامتحاناً من الله وعذاباً في نفسه، لا منه سبحانه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد