قرآنيات

تفسير سورة الكوثر (2)

 

السيد موسى الصدر
فإذًا، ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾ من جميع الجوانب، ذلك الكوثر الذي كان يملأ قلب "معاوية" وأعداء الرسول حقدًا، حينما قال له "مغيرة بن شعبة": يا "معاوية"، إنك قد بلغت مناك، فلو كففت عن سب ابن عمك؛ يطلب منه أن يمنع اللعن على المنابر لأمير المؤمنين (س)، فيقول له حينما يستعرض أن الخليفة "أبا بكر" أخو تيم جاء وحكم وعدل ومات ومات ذكره، والخليفة الثاني أيضًا والخليفة الثالث أيضًا ثم يقول: "هذا أخو هاشم يُنادى باسمه في كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدًا رسول الله، لا والله "إلا دفنًا دفنًا". هذا الكوثر الذي نرى في أقطار العالم، وفي إذاعات العالم، وعلى مآذن العالم من أندونيسيا، من اليابان، من شنغهاي، من الصين، مرورًا بباكستان وبورما، وأفغانستان، وإيران والقفقاس وطشقند والعراق والسعودية والحجاز، واليمن، والجنوب، والشمال، والشرق، لبنان، سوريا، مصر، الأردن، فلسطين، وهكذا في شرق أفريقيا، وهكذا في جنوب أفريقيا، وهكذا في شمال أفريقيا وفي غرب أفريقيا، وحتى في مركز أفريقيا... مئات الألوف والملايين من المآذن، كل يوم خمس مرات "أشهد أن محمدًا رسول الله". هذا هو الكوثر الذي أعطيناك يا "محمد"، أعطيناك الكوثر من جميع النواحي، فلا تحزن. 


وتجاه هذا الكوثر ﴿فصلِّ لربك﴾، أذكر ربك وقدم الطاعة، وكن عند حسن ظنه ﴿وانحر﴾. في التفسير المشهور أن النحر هو نحر الذبيحة، لأن الصلاة والذبيحة في عيد الأضحى للحجاج، ولكل شخص يصلي صلاة العيد وينحر مستحبة، وفي الحج واجب. ﴿فصل لربك وانحر﴾ يعني قدم قربانًا وذبيحة إعلانًا بأنك لا تبالي بنفسك، فتستسلم أمام الله بالصلاة، ولا بمالك فتقدم لله قربانًا. لا شك أن هذا القربان مفيد للفقراء. 
ولكن في بعض التفاسير ﴿انحر﴾ فُسِّرَت يعني ضع يدك عند نحرك في الصلاة، التكتيف. وهذا الحديث نقل في بعض الكتب عن "علي" (ع) أيضًا، ولكن أعتقد أن الحديث غير صحيح لا أريد أن أناقش الحديث من الناحية الرجالية أو الحديثية، ولكن أريد أن أناقش من الناحية اللغوية. فأنتم تعلمون أن ﴿انحر﴾ فعل، وإذا يريد أن يكون مشتقًا من كلمة النحر، بمعنى النحر، هنا يجب أن يكون "تنحر" وليس "انحر"، لأن الفعل المصطنع لا أعرف ماذا يسمونه إذا أردنا أن نتخذ فعلًا من اسم نقول تحجر الماء، ولا نقول احجر الماء، توسد الحجر. وهكذا، إذا أردنا أن نشتق فعلًا من اسم من باب التفعل والتفعيل نتخذ، لا من باب الثلاثي "انحر" لا يستعمل في اللغة العربية ضع يدك عند نحرك، بل انحر يعني إذبح. إذا نريد أن نقول ضع يديك قرب نحرك يجب أن نقول تنحر وليس إنحر. 
فإذًا، الحديث غلط، ولا يمكن أن يصدر الغلط عن الرسول (ص) ﴿فصلِّ لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر﴾. عدوك هو الميت، الذي لا ذنب له ولا عقب، وبالفعل عدوه كان أبتر من جميع الجوانب. لو كان للرسول ذرية فعدوه ليس له ذرية، لو كان له أمة ليس لعدوه أمة، لو كان لأولاده قبور ومشاهد وأسماء، فليس لعدوه ذلك، وهكذا لو كان له مبادئ وقيم وأخلاق وتعاليم ورسالة، فليس لأعدائه ذلك. فهم "الأبتر" لا أنت يا رسول الله، فكن قرير العين وقدم الشكر والطاعة لله تعالى. 
وفي هذه السورة المباركة درس لنا وتأكيد بأن الإنسان إذا سلك سبيل الحق فهو الخالد، ﴿كل من عليها فانٍ* ويبقى وجه ربك﴾ [الرحمن، 26-27]، ما وجه الرب؟ يعني كل عمل صدر لوجه الله فهو الخالد، ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام﴾ [الرحمن، 27]، فإذًا، الإنسان في سبيل الحق خالد. 


توضيح هذه الحقيقة أن الإنسان كيف يخلد في سبيل الخير والحق؟ وينتهي عندما يسلك سبيل الباطل، يحتاج إلى مطالعة ودراسة تجارب البشر. طريق الحق والخير، طرق مختلفة فطريق العلم طريق الحق، وطريق العدل طريق الحق، وطريق الأخلاق طريق الحق، وهكذا الطرق إلى الله وإلى صفاته طرق الحق، فلنستعرض بعض هذه الطرق. 
نحن اليوم أمامنا صرح من العلم، ماذا يعني العلم؟ يعني الكهرباء، يعني الصناعة، يعني الفيزياء والكيمياء، يعني كل هذه الوسائل التي نعيش فيها من البنايات، السيارات، الطائرات ووسائل النقل والانتقال وأمثال ذلك فلنسأل... إن هذه الأمور، هذا الصرح، وهذه الدرجة من العلم، كيف حصلت؟ 
لا شك أن كل عالم وضع في بناء هذا الصرح حجارة، كل عالم عمل تجربة وكرسها وقدمها، هذه التجارب اجتمعت بعضها فوق بعض، هذه الحجارة وضعت بعضها فوق بعض، حتى وصل العلم إلى ما وصل إليه، فأنت لا تتمكن أن تقول أن استفادتنا من الكهرباء في ميكروفوننا أو سيارتنا أو في وسائل الإعلام أو في تدفئتنا أو في تبريدنا أو في الوسائل التي نحن نستفيد منها، لا تتمكن أن تقول أن هذا شغل شخص واحد، آلاف من الناس سعوا وجمعوا تجاربهم ووضعوها جنب بعض حتى وصل العلم إلى هذه الدرجة. فإذًا، نحن في تمتعنا بحضارتنا نستفيد من إنتاج آلاف من العلماء الذين سعوا وأنتجوا في هذا الحقل.


فإذًا، يعيش معنا وإلى الأبد كل من وضع صخرة في بناء صرح العلم، وكل من قدم تجربة في تكوين مقام العلم، وهكذا في الخلق، وهكذا في الدين، وهكذا في القوانين، وهكذا في الأدب وفي جميع التجارب البشرية. يعني أنت اليوم تعيش في مستوى من الحضارة، هذا المستوى من الحضارة القسم الإيجابي منه مبني على جهود الآلاف من الذين سعوا في سبيل الحق والخير وأوصلوا درجة العلم إلى ما أوصلوها إليه في هذا العصر. 
ربما تقول لي أن الشرور أيضًا تكاملت، أقول لك نعم، ولكن الشرور سوف تموت، بأي دليل؟ لأن الشرور ليست في هذا العصر تجربة فريدة من نوعها؛ فالشرور، عشرات المرات في تاريخ البشرية، نمت وتكاثرت وبلغت القمة ثم انهارت أو أدت إلى انهيار الحضارة البشرية، وبدأ الإنسان يجرب من جديد ويبني من جديد، فالشرور أيضًا بنيت على أكتاف أهل الشر، ولكن الشرور لن تدوم، ولا يبقى إلا الخير وما هو في صالح الإنسان في جميع جوانب الوجود. 
فكل شيء ينسجم انسجامًا واقعيًا مع الإنسان، ومع مصالح الإنسان، يبقى ببقاء الإنسان ويخلد بخلود الإنسان. وكل شيء لا ينسجم مع الإنسان انسجامًا واقعيًا يطلع مدة ثم يموت وينتهي، وهكذا. والسبب في ذلك أن الفكرة التي يعطيها الإسلام عن الكون أن الكون مجموعة سائرة نحو الحق والخير، أليس هذا ما يقوله القرآن: ولقد ﴿كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ [الأنبياء، 105]، و﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا﴾ [النور، 55]، و﴿كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ [الأنبياء، 105]. المجموعة المستفادة من القرآن الكريم أن العالم نحو الخير ونحو الكمال، فإذًا، هذه المجموعة من أجزاء الكون التي تتحرك وتنتج وتفعل وتؤثر وتتفاعل وتثمر، هذه الحركات كلها تمشي وتسير نحو الحق ونحو الخير؛ يعني موكب الكون. قافلة الوجود تسير نحو الأفضل ونحو الخير، حتى تصل إلى قمة الخير وقمة الكمال والنظام الأتم على حد تعبيره. 


فكل شيء في العالم يمشي نحو الخير، فإذا كنت في عملك خيّرًا فسوف تكون مواكبًا مع الكون، يعني عملك الخيّر يكون مثل بذرة في أرض صالحة تنمو وتثمر؛ ولكن عمل الشر في مزرعة الكون غير منسجم مع المزرعة، فعمل الشر يموت، وتموت جهود صاحبه، ويموت ذكر صاحبه معه. أما عمل الخير فهو منسجم متناسب مع مزرعة الكون، فيثمر ويعلو وينضج وينتج، ولهذا العمل الخيّر في أي حقل من الحقول، العمل الإيجابي: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ [الرعد، 17]. 
العمل الإيجابي، العمل الذي صدر لوجه الله، وفي سبيل الله عمل متناسب مع العالم، يخلد بخلود العالم، يواكب موكب العالم وقافلة العالم. أما عمل الشر فلا، لأن العالم لا يتناسب مع تحمل عمل الشر، يمكن سنة، سنتين، أو خمسين سنة، مئة سنة يبقى عمل الشر ويزداد، ولكن يموت، ويموت ذكر صاحبه، ولهذا نحن نعتقد أن هذه السورة والتعاليم القرآنية تعطينا درسًا وتقول لنا: 
أيها الإنسان الذي تحب نفسك، وتحب الخلود، وتريد أن تبقى طيب الذكر خالدًا في الدنيا والآخرة، أسلك سبيل الخير في جميع جوانبه صغيرًا كان الخير أو كبيرًا هذا هو طريق البقاء وطريق الخلود.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد