لا ريب أنّ الإنسان الحالي يحيا حياة اجتماعية، وأنّه يحصل على ما يرومه من خلال تقسيم المهام وتوزيع الأدوار، سواء كان هذا التقسيم والتوزيع والفائدة الحاصلة منها تتم بصورة عادلة أم لا، المهم أنّه يسير في حياته على هذا المنهج من الحياة الاجتماعية، ومن هنا أُثيرت الكثير من التساؤلات لتعليل ذلك الميل الإنساني نحو الحياة الاجتماعية.
فهل هو وليد الفطرة؟ أي هل الإنسان اجتماعي بالطبع بحيث إنّه خلق بنحو لا يمكن له إلاّ العيش بصورة اجتماعية، بدرجة لو خالف ذلك ولم ينضو تحت مجتمع ما فإنّه حينئذ يكون حاله كحال من يسبح عكس تيار الخلق وموازينه؟
أو إنّ ذلك ـ الحياة الاجتماعية ـ مقتضى الاضطرار والجبر. وبعبارة أُخرى: إنّ الإنسان مجبر على اختيار الحياة الاجتماعية، بحيث لو استطاع لوحده أن يحلّ جميع مشاكله ويوفر لنفسه جميع متطلّبات الحياة ومستلزماتها فإنّه لا يخضع أبداً لحياة المجتمع ولا ينضوي تحت أي وجود اجتماعي، وإنّه لا يوثق نفسه بوثاق وقيود المجتمع وقوانينه ومقرراته؟
أو إنّ ذلك وليد مجموعة من الحسابات العقلية الدقيقة للنفع والخسارة، لأنّه رأى من خلال تلك الحسابات أنّه لا يمكنه أن يعيش عيشة هانئة وبرفاهية وبعيداً عن كلّ المتاعب والمشاكل إلاّ إذا انضوى تحت خيمة المجتمع؟ وكذلك أدرك ـ وفقاً لتلك الحسابات ـ أنّه ليس بإمكانه ومقدوره السيطرة على جميع القوى الطبيعية والاستفادة منها على أكمل وجه من دون العيش الجماعي، وإن كان أصل الحياة البسيطة لم يتوقف على المجتمع؟
هذه ثلاث نظريات طرحت في هذا المجال، فوفقاً للنظرية الأُولى هناك عامل داخلي يسوق الإنسان نحو الحياة الاجتماعية حالها حال الحياة الزوجية ـ بين الرجل والمرأة ـ النابعة من فطرة الإنسان وجبلته التي تسوقه إلى تشكيل مجتمع مصغّر يتمثّل في الحياة الأُسرية، بحيث تُعد حالة العزوبة والانفراد لكلّ من الذكر والأُنثى بمنزلة فقد عضو من أعضاء البدن الذي لابدّ من إعادته إلى مكانه بأسرع وقت.
وأمّا إذا قلنا بالنظرية الثانية ـ نظرية الاضطرار للحياة الاجتماعية ـ فحينئذ يكون مثل الإنسان فيها مثل المجموعة التي تضل الطريق في الصحراء ويشتدّ بها العطش ممّا يضطرها للقيام وبصورة مجتمعة بحفر بئر للوصول إلى الماء، حيث يشترك الجميع في عملية الحفر هذه لغرض إنقاذ أنفسهم من خطر الموت عطشاً.
وأمّا إذا اعتمدنا النظرية الثالثة ـ الحسابات العقلية لمقدار النفع والخسارة ـ فحينئذ يكون مثل الإنسان مثل التاجرين اللّذين يشتركان في معاملة واحدة لتدرّ عليهم أكبر قدر ممكن من المنفعة.
إنّ آيات الذكر الحكيم تشهد على أحقيّة النظرية الأُولى حيث تشير إلى أنّ العيش الجماعي معجون في خلق الإنسان وطبيعته وأنّها كامنة في خلقه وفطرته، ومادام الإنسان موجوداً وفطرته باقية على سلامتها فإنّه ينجذب نحو الحياة الاجتماعية، ونحن هنا نكتفي بذكر آيتين فقط من بين تلك الآيات الكثيرة:
(يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَليمٌ خَبير) .( [1])
ففي هذه الآية المباركة إشارة واضحة إلى فلسفة الخلقة وأنّه لماذا خلق الإنسان من شعوب وقبائل متعدّدة، وهذه الفلسفة هي: كما أنّ اختلاف الألوان والأشكال والصور تكون وسيلة للتعارف، كذلك الاختلاف في الانتماء إلى القبائل والشعوب والملل المختلفة يكون سبباً لاختلاف الناس وتعارفهم، ولا يخفى علينا أنّه إذا لم يخلق الإنسان بهذه الصور المختلفة في الانتساب وتعدّد المجتمعات والطبائع، فإنّه سيكون حينئذ كمثل مصنوعات شركة واحدة لا امتياز لبعضها على البعض الآخر ولا يمكن تمييز بعضها عن البعض الآخر.
فعلى هذا الأساس تكون عملية الحياة اجتماعيًّا بالنسبة إلى الإنسان من الأمور التي خلقت وأوجدت في طبعه وفطرته منذ اليوم الأوّل، حيث خلق الإنسان لتحقيق تلك الغاية، وهذا ما يعبّر عنه: (إنّ الحياة الاجتماعية مقتضى خلق الإنسان وفطرته).
(وَهُوَ الّذي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشراً فَجَعَلَهُ نَسباً وَصهراً وَكانَ رَبّكَ قَديراً) .( [2])
كذلك هذه الآية تشير وبوضوح إلى أنّ صلة القرابة النسبية والسببية من الأمور التي ولدت مع الإنسان وعجنت في فطرته وخلقته، ولذلك نجد الآية الكريمة بعد أن أشارت إلى خلق الإنسان بجملة (خلق) عطفت مسألة النسب والقرابة والمصاهرة على خلق الإنسان، فقال سبحانه: (فَجَعَلهُ نَسباً وَصهراً) إذن ما دامت صلة القرابة والنسب والمصاهرة، قد أخذت في خلق الإنسان ووجوده، فلازم ذلك أنّ حتمية الحياة الاجتماعية قد لوحظت هي الأخرى، وذلك لأنّ العلاقات والأواصر السببية والنسبية سبب للترابط بين الأفراد، ولا ريب أنّ هذا بعينه هو مفهوم الحياة الاجتماعية لا غير.
وبالنتيجة اتّضح جليّاً أنّ الحياة الاجتماعية للإنسان هي الغاية والهدف من خلقه، وأنّ ذلك النوع من الحياة لا يمكن أن يكون وليد عامل آخر غير عامل الخلق والفطرة، فلا عامل الاضطرار والجبر الخارجي، ولا عامل النفع والخسارة هو الدخيل في تشكيل الحياة الاجتماعية للإنسان، بل العامل الأساسي هو العامل الداخلي الفطري الذي خلق مع الإنسان، وهو الذي يسوقه إلى مثل هذا النمط من الحياة.
ـــــــــــــــــــــ
[1] . الحجرات: 13.
[2] . الفرقان: 54.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة