قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

رؤية قرآنيّة للنصر والهزيمة (1)

من المفاهيم العميقة الواردة في زيارة الحسين عليه ‌السلام مفهوم (ثأر الله)، وهذا المفهوم يفتح عليناً آفاقاً واسعة للتفكير والتأمّل، ويطرح علينا مسائل من صُلب الرسالة والعمل والحركة والجهاد، وهي مسائل بالغة الحسّاسيّة والأهمِّيّة ممّا تواجهها أُمّتنا اليوم؛ ولذلك فسوف نتوقّف قليلاً عند هذه الكلمة، لنتأمَّل مُعطَياتها وإيحاءاتها.

 

الجذور اللغويّة للثأر:

يقول ابن سيده: (الثأر: الطَلَب بالدَم) (1)، والثائر: الطالِب بالدم، وقيل: الثأر طلب الـمُكافأة بالجناية، والثائر: الطالِب بالـمُكافأة بالجناية والدَم.

ومنه حديث محمّد بن مسلم يوم خيبر: (أنا له يا رسول الله الـمَوتور الثائِر)، أي: طالِب الثأر، وهو طالِب الدم (2). ولهذه الكلمة جذور تاريخيّة وأصل قرآني؛ فقد كان الدم يستثير أولياء المقتول وذَويه للقصاص والانتقام من القاتل، وهذه سُنّة تاريخيّة قديمة، والعرب قبل الإسلام كانوا من أكثر الأمم والشعوب اهتماماً بمسألة القصاص والانتقام - (الثأر) - ومُلاحَقة الـمُجرِم، وكانوا يعتقدون أنّ الرجل إذا قُتِل تمثَّلت روحه بشكل طير يُقال له: (الهامة)، ووقفت على قبره وصاحت: (اسقوني)، أي: اسقوني من دَمِ قاتلي، ولا يزال كذلك حتّى يثأر أهل القتيل من قاتله، ومن الـمَعيب على ذوي الـمَقتول أن يتركوا القاتِل ينعم بالحياة، دون أن يثأروا منه ويقتلوه.

يقول السَموأل في مَفاخر قومه:

وما ماتَ مِنّا سَيّدٌ حَتْفَ أنْفِه

ولا طُلَّ مِنّا حَيثُ كان قَتِيلُ

أي: لم يذهب دم قتيل منّا هَدراً دون أن نثأر له.

والعرب في الجاهليّة كانوا يتجاوزون في الثأر الحدود الـمَعقولة، حتّى قتلَ (مهلهل) بأخيه (كليبي) من بكر بن وائل مَقتلة كبيرة، وكاد يُفني بكر بن وائل، حتّى جاء الإسلام وشرَّع القصاص والمساواة والعدل في الأخذ بالثأر.

 

المعنى الاجتماعي للدم:

ولمسألة (الثأر) تأريخ ينفعنا أن نلُمّ به في هذا العَرض، فقد كان الدم في حياة العرب القَبَليَّة، قُبيل الإسلام، مسألة اجتماعيّة تخصّ كرامة القَبيلة كلّها، ضدّ القَبيلة الّتي صدر العدوان منها كلّها.

فإذا اعتدى فرد من قبيلة على فرد من قبيلة أخرى، لم يكن الدم يخصّ وليّ المقتول والقاتِل فقط، وإنّما كانت القبيلة الّتي وقعتْ عليها الظلامة هي صاحبة الدم، والقبيلة الّتي كان الـمُعتدِي منها هي الّتي تتحمّل مسؤوليّة الدم، وليس شخص الـمُعتدي فقط، وكان كلّ فرد من القبيلة الأولى يعطي لنفسه الحقّ أن يثأر من كلّ فرد من القبيلة الثانية، وإن كان الثائر بعيداً عن المقتول، والفرد الّذي يُقتَل به لا علاقة له قريبة بالقاتِل.

والسِرّ في هذا الاهتمام والتعميم في مسألة الدم، أنّ القبيلة العربيّة كانت تعتبر الدم حقّاً للجميع، وعلى الجميع أن يعملوا لحماية دمائهم، وللثأر من القاتل أو القبيلة التي تُؤوي القاتل وتمنحه الحماية.

فالدم للقبيلة وليس للفرد، والدفاع عن الدم يقع على القبيلة وليس مسألة فرديَّة.

ولهذا التصوّر لمسألة الدم أصل صحيح في الإسلام في بعض الحدود، وإن كان الإسلام يختلف في أمر الدفاع عن الدم وحمايته والثأر من القاتل اختلافاً كبيراً عن قوانين الثأر في الجاهليّة، فالدم مسألة تخصُّ الجميع، ولا تخصّ المقتول فقط، يقول القرآن الكريم في التعقيب على أوَّل عدوان وقع على يَدِ قابيل ضدّ أخيه هابيل:

(مِن أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً...) (3).

فالعدوان على شخص عدوان على الجميع، أو كأنّه عدوان على الجميع.

إلاّ أنّ الإسلام هذَّبَ قانون الثأر، ولم يسمح للجميع بالثأر، وإنّما خصّ أولياء الدم بذلك، فإن لم يكن للمقتول وليّ تولَّى ولي الأمر هذا الأمر؛ وذلك لئلاّ يكون الأمر فوضى، ولم يسمح مطلقاً بالقصاص والثأر من غير القاتل، يقول تعالى:

(... وَمَن قُتِلَ مُظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنصُوراً) (4).

فجعل الله تعالى لوَلي الدم الّذي أريق بغير حقّ سلطاناً، ينتقم من الظالم ويقتصّ منه، على أن لا يُسرف في القتل ولا يتجاوز حدود الله (تعالى)، يقول تعالى:

(يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى‏ بِالأُنْثَى‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتّبَاعٌ بِالـمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (5).

فلكلّ دم أُريق بغير حقّ - إذن - ثأر، ولوليّ الدم أن يُطالب بإنزال العقوبة على الـمُعتدي مقابل الجريمة، فيُوكَل الأمر إلى وليّ الدم ليثأر للمقتول، وإن لم يكن للمقتول وليّ، فوَليّ الأمر؛ لأنّ هذا الدم من حقّ الأُسرة ووليّ الدم ينوب عن الأُسرة في الثأر، وإذا لم يوجد فوليّ الأمر يقوم بالثأر للأُسرة والقصاص من القاتل.

وهذا كلّه يُؤكد الصِبغة الاجتماعيّة أو العائلية للدم، وحقّ الأُسرة في المطالبة بالثأر من خلال وليّ الدم أو وليّ الأمر.

 

الثأر في أسرة التوحيد:

وعندما تكون إراقة دم من أجْل قضيّة التوحيد والعبوديّة لله وتحكيم رسالة الله في الأرض، فإنّ الأمر يختلف؛ فالدم هنا أريق في قضيّةٍ رساليّةٍ وليس في قضيّةٍ شخصيّة، والأمر يتعلّق بأسرة التوحيد، ولا يتعلّق بالأسرة العائليّة بمعناها الضيِّق.

وأسرة التوحيد بمجموعها ثائرة لهذا الدم، وليس ذوو الدم من الأسرة الشخصيّة للمقتول بمعناها المحدود والضيِّق، وكما أنّ الظلامة تقع على كلّ أفراد أسرة التوحيد، كذلك العدوان يصدر من أسرة الشرك بأسرها، وليس من فرد أو أفراد بخصوصهم، ما دام يجمعهم الرضا بذلك، فإنّ الآمر بالعدوان والـمُنفِّذ له، والّذي يعدّ له أسبابه ومُقدّماته، والـمُشاهِد لساحة الظلم الراضي به، كلّ أولئك يجمعهم الرضا بالظلم، وكلّ أولئك مطالَبون بهذا الدم: (لعَن الله أمّة قتلتك، ولعَن الله أمّة ظلمتك، ولعن الله أمّة سمعتْ بذلك فرضيتْ به).

فالثأر - في مثل هذه القضيّة - لا يخصّ الأيدي الّتي تلطَّخت بالجريمة مباشرة، وإنّما يعمّ كلّ الراضين بذلك، والناس يجمعهم ويُفرّقهم الحُبّ والبُغض، والولاء والبراءة، والرضا والسخط، في مثل هذه الأمور الّتي ترتبط بالعقيدة والجهاد.

والناس في هذا الأمر ينقسمون إلى شطرَين وولاءَين وعقيدتَين، وأسرتَين:

أحدهما: أسرة (التوحيد).

والأخرى: أسرة (الشرك).

والدم الّذي يُراق من أجْل قضيّة التوحيد دمٌ لا يخصّ ذوي المقتول فقط، وإنّما يعمّ كلّ أعضاء هذه الأسرة، كما أنّ الـمُطالَبة بهذا الدم لا تتوقّف عند القاتل والـمُعتدِي فقط من أسرة الشرك والجاهليّة، وإنّما تعمّ كلّ أطراف العدوان من تلك الأسرة، (الآمِر والـمُنفِّذ والـمُعِدّ، وحتّى الـمُشاهِد الراضي بذلك).

فالجريمة إذن من أسرة الشِرك على أسرة التوحيد، والثأر لأسرة التوحيد من أسرة الشرك.

وحقّ الثأر هنا لا يتحدَّد بعصرٍ أو جيل، فما دامت الظلامة باقية، وما دام هناك دمّ أريق ظلماً وعدواناً على أسرة التوحيد، وأسرة الشِرك تَتَبَنَّى هذا العدوان وتدافع عنه وترضى به، فإنّ الثأر حقّ لهذه الأسرة من أسرة الشرك والجاهليّة، وكلّ جيل من أجيال التوحيد لا بدّ أن يطالب بالثأر ويسعى له، ليرفع الظلامة.

والدم - وهو هنا دم الشهيد - لا يفتأ يستصرخ الضمائر ويستثير الهِمَم في أعضاء الأسرة للثأر، ولا يزال يغلي في ضمائر المؤمنين من كلّ جيل حتّى يثأروا له.

 

ثأرُ الله:

وإذا كان دم الشهيد يستصرخ كلّ الضمائر المؤمنة في كلّ الأجيال للثأر، وكانت مسؤوليَّة دم الشهيد على عُهْدَة كلّ عضوٍ في هذه الأسرة، ومن كلّ الأجيال، حتّى يتمّ الثأر؛ فإنّ وليّ الدم هنا ليس من قبيل وليّ الدم في الدماء الّتي تُراق في القضايا الشخصيّة، فهناك وليّ الدم الأب والجدّ، وإذا فُقدا فوليّ الأمر، وهنا في دم الشهيد الّذي يُراق من أجْل قضيّة توحيد الله وحاكميّته تعالى، فإنّ وليّ الدم هو الله تعالى، وهو وليّ أسرة التوحيد كلّها:

(اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (6).

والله تعالى هو الّذي يتولّى الثأر لدم الشهيد، ويضمن له أن يأخذ بثأره من بين سائر الدماء.

وهذا هو معنى (ثأر الله) الوارد في زيارة وارث، أي أنّ الله تعالى هو وليّ الدم والـمُتصدِّي للثأر للشهيد، وأنّ دم الشهيد ثأر الله. فإنّ الدم هنا لكلّ أسرة التوحيد ولكلّ الأجيال، والله تعالى هو عميد هذه الأسرة ووليّها الّذي يُطالِب بالثأر لدمها.

ومن هذا الباب، نُخاطب الحسين بن عليّ عليهما ‌السلام في زيارة (وارث)، فنقول: (السلام عليك يا ثأر الله وابن ثأره).

وقد كان من عادة العرب قبل الإسلام أن تنصب راية حمراء على قَبرِ القتيل حتّى يتمّ الثأر له، وتبقى هذه الراية؛ لتُذكِّر أفراد القبيلة بالدم الّذي أُريق ظُلماً، ولتستصرِخ ضمائر أفراد القبيلة.

والذين يزورون مَرقد الإمام الحسين عليه ‌السلام اليوم، يرَون على قُبَّة الـمَرقد هذه الراية الحمراء، تُرفرف لتُذكِّر الأجيال من أُسرة التوحيد بالثأر؛ لئلاّ تنام هذه الأمّة على الظلم، ولئلاّ تقرّ لها عَين، ولـمّا يثأر المؤمنون بعد للدم الذي أُريق بكربلاء ظُلماً وعدواناً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1).. يُراجَع: لسان العرب: 2 / 77، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

(2). النهاية، لابن الأثير: 1 / 204، دار إحياء الكتب العربيّة.

(3). المائدة: 32.

(4). الإسراء: 33.

(5). البقرة: 178.

(6). البقرة: 257.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد