قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الحكيم
عن الكاتب :
عالم فقيه، وأستاذ في الحوزة العلمية .. مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، استشهد سنة٢٠٠٣

تكرار القصّة في القرآن الكريم

من ظواهر القصّة في القرآن الكريم تكرار الحديث عن القصّة الواحدة في مواضع مختلفة. وقد أثيرت بعض الشبهات حول هذه الظاهرة ، فقيل: إنّ القصّة بعد أن تذكر في القرآن مرّة واحدة تستنفد أغراضها الدينية والتربوية والتاريخية، فلماذا يتحدّث عنها القرآن الكريم مرّة أخرى؟! وقد أثيرت هذه المشكلة في زمن مقدّم من البحث العلمي في القرآن الكريم، لذا نجد الإشارة إلى ذلك في مفردات الراغب الأصفهاني، وفي مقدّمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي، قال: «والوجه في تكرير القصّة بعد القصّة في القرآن: أنّ رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم كان يبعث إلى القبائل المتفرّقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص متكررة لوقعت قصّة موسى إلى قوم وقصّة عيسى إلى قوم وقصّة نوح إلى آخرين، فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، ويلقيها في كلّ سمع، ويثبّتها في كلّ قلب، ويزيد الحاضرين في الإفهام».

فالشيخ الطوسي يفسّر التكرار بعاملين:

الأوّل: معالجة التفرّق في القطع القرآنية؛ ليكون تكرار القصّة موجبًا لوصولها إلى الجميع.

والثاني: زيادة إفهام الحاضرين الذين يصلهم القرآن الكريم بكامله.

وعبارة الشيخ الطوسيّ ربما لا تعالج المسألة بشكل أساس، غير أنّها تدلّ على أنّ الموضوع طرح في الدراسات القرآنية عند القدماء أيضًا.

ونحن هنا نذكر بعض الوجوه التي يمكن أن تكون تفسيرًا لتكرار القصّة الواحدة في القرآن الكريم:

الأوّل: أنّ التكرار إنّما يكون بسبب تعدّد الغرض الدينيّ الذي يترتب على القصّة الواحدة، فقد تأتي القصّة في موضع لأداء غرض معين، وتأتي في موضع آخر لأداء غرض آخر وهكذا.

الثاني: أنّ القرآن الكريم اتّخذ من القصّة أسلوبًا لتأكيد بعض المفاهيم الإسلامية لدى الأمّة المسلمة، وذلك عن طريق ملاحظة الوقائع الخارجية التي كانت تعيشها الأمّة، وربطها بواقع القصّة من حيث وحدة الهدف والمضمون.

وهذا الربط بين المفهوم الإسلامي في القصّة والواقعة الخارجية المعاشة للمسلمين قد يؤدّي إلى فهم خاطئ للمفهوم المراد إعطاؤه للأمة، فيفهم انحصاره في نطاق الواقعة التي عاشتها القصّة وظروفها الخاصّة، فتأتي القصّة الواحدة في القرآن الكريم مكررة من أجل تفادي هذا الحصر والتضييق في المفهوم، وتأكيد شموله واتّساعه لكلّ الوقائع والأحداث المشابهة؛ ليتّخذ صفة القانون الأخلاقي أو التاريخي الذي ينطبق على كلّ الوقائع والأحداث.

الثالث: أنّ التكرار يكون سببًا في فاعلية القصّة كمنبّه للأمّة على علاقة القضية الخارجية التي تواجهها ـ في عصر النزول أو بعده ـ بالمفهوم الإسلامي؛ لتستمدّ منه روحه ومنهجه، فيكون تكرار القصّة بيانًا للمنبّه عند الحاجة إليه.

ولعلّ هذا السبب والسبب الذي قبله هو ما يمكن أن نلاحظه في تكرار قصّة موسى، والفرق بين روحها العامة في القصص المكّي وروحها في القصص المدنيّ، فإنّها تؤكّد في القصص المكّي منها على العلاقة العامة بين موسى من جانب وفرعون وملئه من جانب آخر، دون أن تذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه، إلّا في موردين يذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكل عام، وهذا بخلاف الروح العامة لقصّة موسى في السور المدنية؛ فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية.

وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التكرار للقصّة في السور المكية إنّما كان لمعالجة روحية تتعلق بحوادث مختلفة واجهت النبي والمسلمين، ومن أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصّة موسى في العلاقة بين النبي والجبارين من قومه، أو القوانين التي تحكم هذه العلاقة، وأنّ هذه العلاقة مع نهايتها لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف.

ولعلّ إلى هذا التفسير تشير الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الفرقان:

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً* وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً* الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً* وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً).

الملاحظ في هذه الآيات أنّ القرآن يذكر أنّ سبب التدرج والترتيب في القرآن الكريم هو: التثبيت للنبيّ من ناحية، الإتيان بالحقّ والتفسير الأفضل للوقائع والأحداث والأمثال من ناحية أخرى، ثمّ يأتي بهذا التفسير الأحسن من قصّة موسى عليه ‌السلام.

الرابع: أنّ الدعوة الإسلامية مرّت بمراحل متعدّدة في سيرها الطولي، وقد كان القرآن الكريم يواكب هذه المراحل ويماشيها في عطائه وطبيعة أسلوبه، وهذا كان يفرض أن تعرض القصّة الواحدة بأساليب متفاوتة في الطول والقصر نظرًا لطبيعة الدعوة، وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها، كما نجد ذلك في قصص الأنبياء حين تعرض في السورة القصيرة المكية، ثمّ يتطوّر العرض بعد ذلك إلى شكل أكثر تفصيلًا في السور المكية المتأخّرة أو السورة المدنية.

الخامس: أنّ تكرار القصّة لم يأت في القرآن الكريم بشكل يتطابق فيه نصّ القصّة مع نصّ آخر لها، بل كان فيها شيء من الزيادة والنقيصة، وإنّما تختلف الموارد في بعض التفاصيل وطريقة العرض؛ لأنّ طريقة عرض القصّة القرآنية قد تستبطن مفهومًا دينيًّا يختلف عن المفهوم الدينيّ الآخر الذي تستبطنه طريقة عرض أخرى.

هذا الأمر الذي نسميه بالسياق القرآنيّ يقتضي التكرار أيضًا؛ لتحقيق هذا الغرض السياقيّ الذي يختلف عن الغرض السياقيّ الآخر لنفس القصّة...

وقد ذكر السيوطيّ في الإتقان عدّة أسباب أخرى ينسبها إلى (البدر بن جماعة) في كتابه المقتنص في فوائد التكرار القصص:

ومنها: ما ذكره الشيخ الطوسيّ آنفًا.

ومنها: أنّ ذلك كان من وسائل التحدي بالقرآن؛ لاختلاف القصّة بالنظم، ومع ذلك عجز العرب عن الإتيان بمثله.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد