طعامُ أهل النار:
وقد تحدَّث القرآن عن طعام أهل النار وصنَّفه ضمن ما ينالُهم في النار من نكالٍ فهم يتجرَّعون به الغُصص لشناعته وقذارته وسوء أثره ومساغه، قال تعالى: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾(107).
وقد ذكر من طعام أهل النار ثلاثة أنواع:
النوع الأول: سمَّاه القرآن غسلين: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾(108) والغسلين هو غُسالة أهل النار أي ما يسيلُ من أبدانهم من الصديد والقيح والدم.
والنوع الثاني: الضريع: قال تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾(109) و"الضريع -كما في بعض الروايات- شيءٌ يكون في النار يُشبهُ الشوك أمرُّ من الصبْر وأنتنُ من الجيفة، وأشدُّ حرًّا من النار سمَّاه اللهُ الضريع"(110). ورَوى الشيخُ عليُّ بن إبراهيم القمِّي بسندٍ صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلتُ له: يا ابن رسول الله خوَّفني فإنَّ قلبي قد قسا، فقال: يا أبا محمد استعدَّ للحياة الطويلة، فإنَّ جبرئيل جاء إلى النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وهو قاطب، وقد كان قبلَ ذلك يجيء وهو متبسِّم، فقال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل جئتني اليوم قاطبًا، فقال: يا محمد قد وُضعتْ منافخ النار، فقال: وما منافخ النار يا جبرئيل؟ فقال: يا محمَّد إنَّ الله عزَّ وجل أمرَ بالنار فنُفخ عليها -إلى أن قال-: لو أنَّ قطرةً من الضريع قُطرت في شرابِ أهلِ الدنيا لماتَ أهلُها من نتنِها.."(111).
النوع الثالث: الزقُّوم: وقد عرَّفها القرآن بقوله: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾(112) وقال تعالى في سورة الصافات: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ﴾(113) فهي شجرةٌ لا تُحرقها النار بل تنبت في أصل الجحيم، فتصوَّر أنت من أيِّ مادَّة خُلقت منها هذه الشجرة الخبيثة!! وأمَّا ثمرها فهيئتُه مرعبة كأنَّه رؤوس الشياطين، وأما أثر هذا الثمر في البطون فهو كأثرِ الـمُهل وهو النحاس أو الصفر المذاب ﴿يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾(114) فإنَّهم مقسورون على تناوله ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾(115) فإذا امتلئت منه البطون شربوا عليه من الحميم.
وأمَّا شرابُ أهل النار فأربعةُ أنواع:
النوع الأول: الحميم: يقول الله تعالى: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾(116) وسوف يكون هو شرابهم الذي يستكثرون منه فكلَّما قطَّع أمعاءهم استُعيضوا عنها بأمعاء أخرى، يقول الله تعالى: ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾(117) أي يشربونه كما تشرب الإبل العطاشُ الماء.
النوع الثاني: الصديد: وهو شرابُ الجبابرة، قال تعالى: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾(118) رُوي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) أنَّ ماء الصديد: "هو الدم والقيح من فروج الزواني في النار"(119) وهو قول أكثر المفسّرين كما في مجمع البيان.
النوع الثالث: الغسَّاق: وهو شراب أُعدَّ للطغاة، قال تعالى: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾(120) وقال تعالى: ﴿لِلطَّاغِينَ مَآَبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا﴾(121) والغسَّاق فسَّره بعضُهم بشرابٍ لونُه أسود منتنُ الرائحة شديدُ الحرارة، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾(122) أنَّ من جنس هذا الشراب أنواع ذات مذاقاتٍ مختلفة، فكلُّها غسَّاق ولكنَّ طعمَها ومذاقَها مختلف.
النوع الرابع: ماءٌ كالـمُهل، وهو شرابٌ أُعدَّ للظالمين: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾(123) والـمُهْل كما قيل هو كعُكر الزيت المغلي إذا قرَّبه أحدُهم من فمه سقطت منه فروة وجهه لشدَّة حرارته.
ونختم الحديث حول جهنَّم في القرآن الكريم بالإشارة الموجزة إلى أمور:
الأمر الأول: أن تنوُّع العذاب في جهنَّم ينشأ عن تفاوت درجات المعذَّبين فيها كما أفاد ذلك مثلُ قوله تعالى: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾(124) فكلٌّ منهم يشقى بالعذاب المناسب لطبيعة الذنوب التي كان يقترفُها ومستوى الجحود والعناد الذي كان عليه، فالعذاب الذي سوف يشقى به كلُّ معذَّبٍ في النار سوف لن يتجاوزَ مقدار الاستحقاق كما أفاد ذلك قوله تعالى: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾(125).
ثم إنَّ ظاهر الكثير من الآيات أنَّ أصنافًا من المعذَّبين في النار قد يشقون بالعديد من أنواع العذاب إما بالتنقل من نوعٍ لآخر أو بأنْ يعذبون بمجموعها في عرضٍ واحد، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾(126) فهذا الصنف يشقى بكلِّ هذه الأنواع الثلاثة من العذاب، والظاهر أنَّ ذلك يتمُّ بالتنقُّل من نوعٍ لآخر، ولعلَّه يكون في وقتٍ متقاربٍ، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾(127) والظاهر من الآية أنَّ العذاب الغليظ يقع في مرتبةٍ متأخرة عن العذاب بماء الصديد كما هو مقتضى قوله: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾(128).
الأمر الثاني: تتميَّز نار الآخرة أنَّ سكانها لا يموتون ما داموا فيها معذَّبين، فرغم أنَّ صنفًا من عذابِها لو وقع ما دونه بمراتبَ على أحدٍ من أبناء الدنيا لماتَ من ساعته إلا أنَّه في نار الآخرة يظلُّ يكابدُ قسوة العذاب وإيلامه دون أنْ يموت، وقد نصَّت على ذلك الكثيرُ من الآيات كقوله تعالى: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا﴾(129) وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾(130). وكذلك قوله تعالى: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾(131).
الأمر الثالث: أفاد القرآن الكريم أنَّ جلود المعذَّبين في نار الآخرة إذا نضجت وتلفت فإنَّها تُستبدل بجلودٍ غيرها وهكذا هي حالهم أبدًا أو إلى أنْ يُقضى لهم فيخرجون من جهنَّم، يقول الله تعالى في سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾(132) والظاهر أنَّ الأمر لا يختصُّ بالجلود، فإنَّ القرآن قد تحدَّث مثلًا عن أنَّ أمعاء وأحشاء من سيُصبُّ فوق رأسه الحميم سوف تنصهرُ بفعل الحميم، فلأنَّه سيظلُّ حيًّا ولأنَّ هذا السِنخ من العذاب سوف يتكرَّرُ وسوف يكونُ له ذات الأثر وهو الانصهار فذلك يقتضي أنَّ كلَّ شيء يتلفُ من جسد الإنسان بفعل العذاب في نار الآخرة سوف يُستعاض عنه بمثله، وكذلك هو مقتضى قولِه تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾(133) فإنَّ سقر بمقتضى هذه الآيات لن تبقيَ من سكانها شيئًا ولن تذر وحيثُ إنَّهم لن يموتوا وسوف يُعذَّبون بذات العذاب فذلك يقتضي عودتهم إلى ما كانوا عليه ثم ابتلاؤهم بذات العذاب.
الأمر الرابع: تحدَّث القرآن عن خلود بعض سكَّان النار في العذاب فيما يقرب من أربعين آية إذا ضممنا إليها ما وصف به العذاب بالمقيم في عددٍ من الآيات، والظاهر أنَّ المراد من الخلود هو البقاءُ في العذاب أبد الآباد، فليس المرادُ منه البقاء في العذاب طويلًا، فإنَّ ذلك خلافُ الظاهر من معنى الخلود المؤكَّد في آياتٍ عديدة بالأبد كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(134) وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾(135) وقد يُؤيَّدُ ذلك بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾(136).
وأمَّا قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾(137) فلا يدلُّ على أنَّ خلودهم في النار يدومُ بدوامِ السماوات والأرض فإذا زالت السموات والأرض انقطع عنهم العذاب، فإنَّ القرآن وإنْ تحدَّث عن زوال السمواِت والأرض في مثل قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾(138) وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾(139) وقوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾(140)، فهو وإنْ تحدَّث عن أنَّ للسماواتِ والأرضِ أجلًا محدودًا ثم مآلهما إلى زوال إلا أنَّ المقصود من ذلك هو سماواتُ الدنيا وأرضُها، وليس هي سماوات الآخرة وأرضها، فإنَّ ثمة سماواتٍ وأرضًا أخرى في العالم الآخر تحدَّث القرآن عنهما في مثل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(141) ويقول تعالى على لسان أصحابِ الجنَّة: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(142) فللعالم الآخر أرضٌ وسماوات غيرُ أرض الدنيا وسماواتِها، فالتي سوف يعرضها الفناء بمقتضى ظاهر الآيات هي سماواتُ الدنيا وأرضها وأما ما يكون في العالم الآخر من سماواتٍ وأرضٍ وجنَّةٍ ونار فهي باقية لا يعتريها فناءٌ كما هو مقتضى قوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾(143).
فقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾(144) يُؤكِّدُ بقاءهم أبدًا في النار لا أنَّه دليلٌ على انقطاع العذاب عنهم، فإنَّهم خالدون في العذاب لأنَّهم سيظلُّونَ كذلك ما دامت السماواتُ والأرض، وقد قضى اللهُ تعالى بدوامِهما أبدًا، ويُؤيِّد ذلك أنَّ الحديثَ عن خلود أهلِ النارِ في النار جاء في سياق الحديث عن خلودِ أهلِ الجنَّة في الجنَّة وقد فسَّر ذيلُ الآية الخلود الذي سيمنحه الله لأهل الجنَّة بقوله: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾(145) أي غير مقطوع، فافتراض فنائها ينافي وصف عطائها بغير المقطوع، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾(146).
الأمر الخامس: يظهرُ من العديدِ من الآيات المتصدِّية لبيان صنوف العذاب وأحوال أهل النار أنَّ لنار الآخرة وللعالم الآخر قوانين إلهيَّة تكوينيَّة مختلفة عن القوانين التكوينيَّة التي عهدها الإنسانُ في الدنيا، فقد تحدَّث القرآنُ مثلًا عن أنَّ المعذَّبين في نارِ الآخرة لا يموتون بالعذابِ رغم أنَّ دون هذا العذاب بمراتب لو وقع على أحدٍ من أبناء الدنيا لمات من ساعته، وتحدَّث عن أنَّ الجلود بعد نضجِها تعودُ كما هي وكذلك الأمعاء تنصهر والعظام تتحطَّم ثم تعود كما هي، وتحدَّث عن شجرةٍ تنبتُ في أصل الجحيم، وهذا ما لا يُمكن وقوعُه بحسب قوانين عالم الدنيا، وتحدَّث عن أنَّ أصحابِ النار يشربون الحميم كما يشرب الإبلُ العطاشُ الماء، وهذا ما لا يُمكن تصوُّره، فإنَّ الحميم بل وما دونه في الحرارة لو صُبَّ في فمِ رجلٍ من أبناءِ الدنيا لتقطَّع بلعومُه قبل أنْ يصلَ الحميمُ إلى جوفِه، فكيف يشربُه هؤلاء شُربَ الهِيم!! وكيفَ يستقرُّ الزقُّوم في بطونِهم، وقد شبَّهته الآياتُ بالـمُهل والنحاسِ الـمُذاب الذي يغلي في البطون كغلي الحميم!! وتحدَّث القرآن عن أهل النار وأنَّهم يختصمون ويتعارفون فكيف لا يُذهلُهم هول العذاب عن كلِّ ذلك؟! بل كيف يتنفسون وسط الجحيم؟!!
فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ ساحة المحشرِ ستشهدُ نُطقَ جلودِهم وجوارحِهم وستشهدُ محاورةَ الإنسانِ لجوارحه: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(147) وستَشهدُ تطايرَ الكتبِ وما أشبه ذلك، فمِن كلِّ هذه النماذج ومثلِها يثبتُ يقينًا أنَّ قوانينَ العالم الآخر ليستْ هي كقوانين عالم الدنيا، وهذا ما يفتح لنا آفاقًا رحبة لفهم الكثير من الشؤون وتلاشي الكثير من الشبهات التي تطرأ نتيجة قياسِ العالم الآخر على قوانين عالم الدنيا.
الأمر السادس: إنَّ عذابَ الآخرة الذي وصفَه اللهُ تعالى في كتابه مختصٌ بالـمُستَحِقِّ من ذوي الجحود والعناد أو التمرُّد والظلم والتجاوز عن سوء اختيارٍ لحدود الله تعالى، فلا يطالُ العذابُ ذوي العذر من الناس وإنْ لم يكونوا موحِّدين أو مُلتزمين بفرائضِ الله تعالى، وهذا الأمرُ رغم وضوحِه وبداهتِه وعدمِ حاجته للبيان نظرًا لاقتضاءِ عدالةِ اللهِ تعالى له واستحالة الظلم على ساحتِه المقدَّسة، رغم ذلك فقد تصدَّت الكثيرُ من الآياتِ لتأكيده بل إنَّ مئاتِ الآياتِ التي تصدَّت لوصف عذابِ الآخرة أو للوعيدِ به ذيَّلتْ أو تصدَّرت بيان منشأ العذابِ وأنَّ منشأه الكفر والجحود والذي لا يصدق إلا في فرض العناد والعلم والعمد أو التقصير أو منشأه الظلم والطغيان والاستكبار والتجاوز لحدود الله واجتراح الكبائر من الذنوب، وكلُّ ذلك وشبهه لا يصدق في ظرف الجهل الناشئ عن قصورٍ لضعفٍ في المدارك العقليَّة أو لظرفٍ قاهر خارجٍ عن الاختيار.
فمِن الآيات التي يُمكن الاستدلالُ بها على أنَّ اللهَ تعالى لا يُعذِّبُ الجاهلَ القاصرَ أو الذي لم يصلْه البيان لظروفٍ خارجةٍ عن اختياره قولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا﴾(148) وقولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾(149) وقولُه تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(150) وقولُه تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾(151).
وأمَّا الآيات التي تصدَّت لبيان أنَّ منشأ العذاب هو مثل الكفر والجحود، والنفاق، والكتمان للحق، والبغي والإفساد في الأرض، والطغيان والاستكبار، والظلم، والتعدِّي، والتجاوز لحدود الله عن سوء اختيار فكثيرة جدًّا تربو على المئات ولذلك يشقُّ استقصاؤها، ولذلك سنقتصر على ذكر نماذج منها:
النموذج الأول: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾(152) الواضح من الآية أنَّ الوعيد بالعذاب في الآية نشأ عن سوء الاختيار ولم ينشأ عن ظرفٍ قاهر أو عن الجهل والقصور، فذلك هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾(153) ومفاد الآية ظاهرًا هو لو لم يكن الوعيد بالعذاب بسبب ما قدَّمت أيديهم عن اختيار ومعرفة لكان الله تعالى ظلامًا للعبيد، وهو جلَّ وعلا منزَّه عن الظلم للعباد.
النموذج الثاني: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ من أنصَارٍ﴾(154) الواضح من الآية أنَّ منشأ دخول النار هو الظلم، والظلم لا ينشأ إلا عن اختيار وعن وعيٍّ وإدراك، فقبح الظلم من المدركات الفطرية، فمَن لا يدركه يكون فاقدًا للإدراك، والفاقد للإدراك لا يُوصف بالظلم ولا يكون مخاطبًا ومكلفًا.
ويقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾(155) وظاهر هذه الآية هو أنَّ عذاب الخلد كان جزاء على ما كانوا يكتسبون، والجزاءُ إنَّما يكون في مقابل العمل الاختياري كما أَّن قوله يكتسبون ظاهر في الاختيار والواضح من الآية أنَّها في مقام التحذير، والتحذيرُ لا يتَّجه إلا للعاقل المختار ولا يكون منجِّزًا إلا مع الوصول والعلم.
وكذلك هو مدلول قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(156).
النموذج الثالث: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾(157) المحادَّة لله والرسول هي المجاوزة للحدود على وجه المشاقة والمعاداة.
النموذج الرابع: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(158) فمنشأ صيروتهم من أصحاب النار هو أنَّهم عادوا إلى تعاطي الربا بعد أنْ جاءتهم موعظةٌ من ربِّهم، فاستحقاق العذاب إنَّما نشأ عن استخفافهم بنهي الله رغم وصوله لهم، وقد أكَّدت هذا المعنى آيةٌ أُخرى، وهي قوله تعالى تتحدَّث عن منشأ استحقاق اليهود أو بعضهم للنار: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(159).
النموذج الخامس: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾(160) فهو إنَّما استحقَّ جهنَّم لأنَّه تعمَّد القتل.
وهكذا فإنَّ أكثر الآيات -إنْ لم يكن جميعها- التي تصدَّت للوعيد بالنار قد اشتملت على بيان منشأ الوعيد، وكلُّ مناشئ الوعيد دون استثناء لا تصدقُ إلا في فرض العلم والعمد والاختيار، فحتَّى عدم التوحيد الناشئ عن الجهل القصوري لا يصدقُ عليه شيء من موجبات الدخول في النار، والمسألة بحاجة إلى مزيدٍ من البيان...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
107- المزمل / 12-13.
108- الحاقة / 35-37.
109- الغاشية / 6-7.
110- تفسير مجمع البيان -الشَّيخ الطَّبرسي- ج10 / ص336.
111- تفسير القمّي -علي بن إبراهيم القمّي- ج2 / ص81.
112- الدخان / 43-46.
113- الصافات / 62-67.
114- الدخان / 45-46
115- الصافات / 66.
116- محمد / 15.
117- الواقعة / 54-55.
118- إبراهيم / 15-17.
119- تفسير مجمع البيان -الشَّيخ الطَّبرسي- ج6 / ص67.
120- ص / 55-58.
121- النبأ / 22-26.
122- ص / 58.
123- الكهف / 29.
124- آل عمران / 162-163.
25- النبأ / 26.
126- الحج / 19-21.
127- إبراهيم / 16-17.
128- إبراهيم / 17.
129- الأعلى / 12-13.
130- فاطر / 36.
131- إبراهيم / 17.
132- النساء / 56.
133- المدثر / 26-28.
134- الأحزاب / 64-65.
135- الجن / 23.
136- فاطر / 36.
137- هود / 106-107.
138- الروم / 8.
139- الأنبياء / 104.
140- الواقعة / 4-6.
141- إبراهيم / 48.
142- الزمر / 74.
143- النحل / 96.
144- هود / 107.
145- هود / 108.
146- هود / 105-108.
147- فصلت / 21.
148- الطلاق / 7.
149- البقرة / 286.
150- الإسراء / 15.
151- الأنفال / 42.
152- الأنفال / 50-51.
153- الأنفال / 51.
154- آل عمران / 192.
155- يونس / 52.
156- الشورى / 42.
157- التوبة / 63.
158- البقرة / 275.
159- النساء / 161.
160- النساء / 93.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان