قرآنيات

قارون والرأسمالية المستبدة

الشيخ محمد جواد مغنية

 

«إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ».

 

كان قارون من بني إسرائيل، لأنه من قوم موسى، وقيل: ابن عمه، وهو واضع أسس الرأسمالية المستبدة أو ممثلها، لأنه احتكر المال، وتسلّط على قومه مبررًا ذلك بقوله: «إنما أوتيته على علم عندي». وهذا هو المذهب الاقتصادي القائل: الفرد أولًا والمجتمع ثانيًا، وأيضًا تومئ إليه الآية التي نفسرها، حيث جمعت بين البغي وكنز المال... وأي بغي أعظم من أن تكون مقدرات الخلائق رهنًا بمشيئة الأفراد أو الفئات؟

 

وقد حاول قوم قارون أن يردعوه عن البغي بالحسنى، ويثيروا فيه روح الخير والصلاح: «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ». ما لك تكثر فرحًا بالمال وتغتر به، وتتخذه وسيلة للبغي والعدوان، والترَف والإسراف، وحولك الألوف يموتون جوعًا؟ أتختال وتفاخر بقدرتك على المآثم والرذائل؟ إن الله لا يحب كل مختال فخور.

 

«وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ». جدّ واجتهد واعمل لوجه الله في كل ما أعطاك من مال وصحة وعقل، فإن المرء مسؤول أمام الله عن جسمه فيمَ أبلاه، وعن عمره فيمَ أفناه، وعن ماله ممَّ اكتسبه وفيمَ أنفقه.

 

«وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» لا تترك ما أنت في حاجة إليه لحياتك ومتعتك، فكُل ما شئت من الطيبات، والبَس ما أردت من فاخر الثياب، واسكن ما أحببت من الدور، ولكن على حساب جهدك وكدّك، لا على حساب الآخرين، فإنك بهذا تجمع بين الحظين معًا، وتملك الزادين جميعًا: زاد الدنيا وزاد الآخرة.

 

«وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ». اتقِ الله فيما أنعم به عليك، واشكره على ذلك بالإحسان إلى عباده وعياله، وتعاون معهم على ما فيه خيرك وخيرهم.

 

«وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ» بالجور والخيانة، والتكبر والتجبّر، والعيش في الإسراف والبذخ، وحولك الجياع والعراة... إن هذا هو الفساد بالذات: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

 

«قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي». هذا المال من علمه هو... من موهبته ومهارته... وللإنسان أن يستغل علمه وموهبته في السلب والنهب، والتقتيل والتشريد، وفي كل ما يهوى ويريد. وليس قارون بدعًا في هذا المنطق... فقد وضعت الولايات المتحدة الأمريكية مخططًا لشراء العقول والمواهب من مختلف أنحاء العالم، وأغرت العلماء والخبراء بالهجرة إليها، وأسمت هذا المخطط «برين درين» أي استنزاف العقول، والقصد منه أن تستخدم المواهب الإنسانية في نهب ثروات البلاد وأقوات العباد في شرق الأرض وغربها.

 

«أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا»؟ وكيف يعلم وقد أطغاه المال والجاه، وأعماه عن عاقبة الظلم والبغي، وأنساه ما سمع عن القرون الأولى، وأنها كانت أكثر منه مالًا وأعزّ نفرًا، ولما طغت وبغت أذاقها الله عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى...

 

«وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» أي إن الله يعذبهم بغير حساب. وتُسأل: كيف تجمع بين هذه الآية، وبين الآية 93 من سورة الحجر: «فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ»؟

 

الجواب: المراد بالمجرمين هنا الذين يعتدون على حقوق الناس وحرياتهم، ويثيرون الفتن والحروب من أجل مصالحهم ومنافعهم، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بغير حساب حتى ولو هللوا وكبروا، وعليه يكون قوله تعالى: «وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ»، مخصصًا لقوله: «لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» أي لو جمعنا بين القولين لكان المعنى: لنسألنهم أجمعين إلا من اعتدى على حقوق الناس فإنه يدخل النار من غير سؤال.

 

«فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ». حذّره قومه من عاقبة البغي والفساد، فنفخ الشيطان في أنفه، وأخذته العزة بالإثم، وجمع خدمه وحشمه، وركب في موكب فخم يعرض على الناس ثراءه وكبرياءه تحديًا للذين وعظوه وحذروه من سكرات الترف والبغي.

 

«قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ». نظر ضعفاء العقول إلى المال والزينة، وذهلوا عن عاقبة البغي والكبرياء فتمنّوا أن يكون لهم مثل ترف قارون وأبهته ليغرقوا في الملذات والشهوات، ولو نظروا بعين البصيرة لقالوا كما قال أولو العلم.

 

«وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ». ضمير «يُلَقَّاهَا» يعود إلى المثوبة والمنزلة عند الله التي دل عليها سياق الكلام، والمعنى أن أهل العلم بالله قالوا لضعفاء العقول: لقد نطق الشيطان على ألسنتكم... إن ما عند الله خير وأبقى، وما اعتزّ أحد بغيره تعالى إلا أذله وأخزاه.

 

قال الإمام علي: «ربّ مغبوط في أول الليل قامت بواكيه في آخره». وقال: «ما قال الناس لشيء طوبى له إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء».

 

«فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ». ولا ينجو ظالم من الخسف في الدنيا قبل الآخرة، وليس من الضروري أن يكون الخسف بالأرض فقط، بل يكون أيضًا بالخزي واللعن على ألسنة الخلائق، وبأيدي المظلومين والمحقين...

 

«وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ».

 

بالأمس قال الضعفاء: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون لأنهم نظروا إلى الدنيا وزينتها، وذهلوا عن عاقبة البغي والكبريا ، أما اليوم، وقد شاهدوا دائرة السوء تدور على رأس الطاغية قارون، فقد أدركوا الحقيقة وحمدوا اللَّه الذي لم يؤتهم مثل ما أوتي الطغاة. وفي نهج البلاغة: فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر.. ومن هنا قيل: الأمور بخواتيمها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد