وليعلم أن ما يقوم به المعصوم من توضيح وتفصيل لما أجمل في الكتاب، ليس اجتهادًا في الرأي من تلقاء نفسه، حتى يكون قابلاً للصواب والخطأ، وإنما هو عين الواقع والمراد من الله سبحانه، وهو ما أشار إليه الإمام الصادق عندما سأله رجل عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: مه ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله لسنا من: "أرأيت" في شيء[1].
ولعله لهذا يشير الإمام الباقر عليه السلام فيما نقله الشيخ الكُليني في الكافي [2] عنه: إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه، إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز وجل يقول: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس" وقال: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا" وقال: "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم".
أمثلة من توضيح المعصومين القرآن والاستشهاد به:
1/ قول الله تعالى “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا” فهل المطلوب هنا هو السعي بين الجبلين الصفا والمروة وقطع المسافة بأي نحو كان وأن المهم أن يطوّف بهما؟ أو أن المطلوب سعي خاص بحيث يكون البدء من مكان والختم من مكان آخر؟
الإمام يؤكد على البدء من الصفا، وتسعى إلى المروة لتُكمل شوطًا واحدًا، وذلك لأن الله بدأ بالصفا في الآية المباركة[3]، وهذا بالطبع يتفرع على القول بتوقيفية الترتيب بين كلمات الآية الواحدة وترتيب الآيات فيما بينها وأنه توقيفي قام بهِ رسولُ الله (ص). فهناك إذن عناية خاصّة بكل كلمة، ولذلك نجد أن تقدم كلمة “الصفا” على كلمة “المروة” في الآية ليس ترتيبًا عشوائيًّا.
ومثله في ترتيب أفعال الوضوء، فعند البعض ربما يقال [4] بأن المطلوب هو هذه الأعمال من غسل الوجه واليدين والرأس بينما قد قرر الإمام الباقر عليه السلام أن الترتيب لازم، كما قال الله تعالى: ففي رواية زرارة عنه قال: تابع بين الوضوء كما قال الله عز وجل؛ ابدأ الوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين ولا تقدمن شيئًا بين يدي شيء تخالف ما أمرت به، فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع وإن مسحب الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل ابدأ بما بدأ الله عز وجل به. [5].
2/ بل يوضح الإمام أن ترتيب الآيات فيما بينها قد يُشير إلى ترتيب الأعمال، ففي زكاة الفطرة ذكر العلماء أن الواجب أن تُخرجَ الزكاة ثم تُصلي، وأنه لمن أراد الصلاة يكون إخراجها هو من باب الصدقة المطلقة لا خصوص زكاة الفطرة.. وقد بين الإمام عليه السلام أن هذا الترتيب جاء من قولهِ تعالى (قدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[6].
3/ قد يؤدي الجمع بين آيتين إلى معرفة حكم لم يكن ليعرف لولا هذا الجمع.. وقد ذكر هذا عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في قصةً امرأة حدثت في زمن الخليفة الثاني [7]، إذ جاء زوجها للخليفة يقول أنهُ تزوجها منذ ستة أشهر وأنها ولدت لهُ ولدًا، فهل خرج الجنين قبل أوانه أم أنها جاءت بما لا يرضي الله قبل زواجهما بثلاثة أشهر؟ أكثرُ الناس قالوا بأنهم لم يُصادفوا مثل هذه الحادثة من قبل، لذلك فإن ظاهرها وجود خيانة، والمرأة تبكي وتنكر ذلك، فسُئِل أمير المؤمنين (ع)، فاستحضرها فقالت “واللهِ يا أبا الحسن ما جرت عليّ ريبة، وما عرفتُ رجُلاً قبله واللهُ شاهدٌ على ما أقول” فقال اتركوها وجمع بين الآيتين “وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا” و “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن” أي ٢٤ شهرًا، أي أن أقل مدةٍ للحمل هي ستةُ أشهر، فإذا نقص من الثلاثين شهرًا مدة الرضاعة بقي مدة الحمل، وهذا اعتبره دليل براءةِ المرأة، ونَسَبَ الولدَ إلى والديه، ونجّاها من التُهمة وربما من الحد.
4/ في مسألة القصر في الصلاة وهل أنهُ عزيمة، بمعنى أنهُ لا بد منهُ في السفر أم أنهُ رخصة، بمعنى أن الإنسان مُخيرٌ فيه؟ فالكثير من أتباع مدرسة الخلفاء قالوا بأنها رُخصة، مستندين إلى ظاهر القرآن الكريم حيث جاء فيه “فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ” أي أنكم لن تؤاخذوا لو قصرتم الصلاة في السفر، ولكن الإمامية يرون أنها عزيمة، وقد أشار الإمام عليه السلام إلى تفسير آية بأخرى حيث قال إن التعبير بـ (لا جناح) موجود أيضًا في السعي بين الصفا والمروة ومع ذلك لا أحد من العلماء يقول بأنه رخصة، وإنما يجمعون على وجوبه على نحو العزيمة “فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا”. فكما أن السعي إلزامي في هذه الآية والمعتمر والحاج ليس مُخيرًا فيه، فكذلك الحال ينطبق على آية القصر في الصلاة أيضًا[8].
6/ في موضوع غُسل الجنابة، يرى الإمامية أنه يُغني عن الوضوء، بل يرون أن الوضوء قبله أو بعده منهي عنه[9]، أما في مدرسة الخلفاء فيرون وجوب الوضوء قبل الغسل أو بعده[10]. وقد جاء رجلٌ إلى الإمام الصادق (ع) ونقل لهُ هذا الأمر، فتبسم الإمام (ع) وقال “وأيُ وضوءٍ هو أنقى من الغُسل وأطهر؟”.. من أين اكتشف الامام هذا المعنى؟ إنه من الآية المباركة “وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا” أي فاغتسلوا ولم يقرنها بالوضوء قبله ولا بعده [11] وقد كان في مقام البيان.
7/ في موضوع مسح بعض الرأس، يذهب الإمامية إلى لزوم مسح بعض الرأس في الوضوء، بينما يذهب أتباع مدرسة الخلفاء إلى غسل الرأس وتعميمه! فأما المسح لا الغسل فذلك لما ورد من أنه (إن في كتاب الله المسح ويأبى الناس إلا الغسل)[12]، ثم كيف يستفاد أن المسح هو لجزء من الرأس كما سأله زرارة فقال لهُ زُرارة “وكيف نعرف أن المسح في الوضوء هو لِجزءٍ من الرأس وليس مسحًا للرأس بأكمله؟” فقال الامام الباقر (ع) (لمكان الباء)[13] في اللغة العربية تُستعمل الباء في مثل هذه المواضع للتجزئة والتبعيض والله تعالى يقول “وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ”.
فإذن نرى أن أهل البيت (ع) أحيانًا يستفيدون من حرف، وأحيانًا من كلمة، وأحيانًا من الجمع بين آيتين، فهو علمٌ قد أحاطوا به وورثوهُ من جدهم رسول الله (ص).
8/ في ما بينه الإمام الهادي في كتابي فجر بمسلمة، فقد نقل أنه قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة وأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا، فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وسؤاله عن ذلك، فلما قدم الكتاب كتب أبو الحسن (عليه السلام): يضرب حتى يموت، فأنكر يحيى بن أكثم وأنكر فقهاء العسكر ذلك، وقالوا: يا أمير المؤمنين سله عن هذا فإنه شيء لم ينطق به كتاب، ولم تجئ به السنة، فكتب: إن فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا وقالوا: لم تجئ به سنة ولم ينطق به كتاب، فبين لنا بما أوجبت عليه الضرب حتى يموت؟ فكتب (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم "فلما رأوا بأسنا قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون" قال: فأمر به المتوكل فضرب حتى مات. [14]
الجدير ذكره أن هذا الحكم أيضًا موجود لدى مدرسة الخلفاء، ولكن الاستدلال عليه هو بفعل بعض الصحابة، ففي كتاب الحدود من أحكام أهل الملل لأحمد بن حنبل جاء فيه: سألت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة ماذا يصنع به؟ قال: يقتل؟ قلت فإن الناس يقولون غير هذا؟ قال فماذا يقولون؟ قلت: عليه الحد.. ففي هذا شيء؟ قال: عن عمر أنه أمر بقتله [15]..
بينما يلاحظ في الرواية عن الإمام الهادي عليه السلام أن الاستدلال كان بآية من القرآن الكريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 1/ 58
(2) الكافي 1/ 60
(3) عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين فرغ من طوافه وركعتيه قال أبدأ بما بدأ الله عز وجل به من إتيان الصفا إن الله عز وجل يقول (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) مرآة العقول 18/ 66
(4) قال السرخسي الحنفي في المبسوط: وإن بدأ في وضوئه بذراعيه قبل وجهه أو رجليه قبل رأسه، أجزأه عندنا ولم يجزه عند الشافعي رضي الله عنه، فإن الترتيب في الوضوء عندنا سنة. وحجتهم: أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، ولو كان الترتيب مرادًا لكان العطف بثم أو الفاء في آية الوضوء..
(5) وسائل الشيعة 1/ 449
(6) في الفقيه عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قول الله عز وجل قد أفلح من تزكى قال عليه السلام: من أخرج الفطرة قيل له وذكر اسم ربه فصلى قال خرج إلى الجبانة فصلى.
(7) وسائل الشيعة 1: مقدمة التحقيق / 20 عن السنن الكبرى 7/ 442
(8) وسائل الشيعة 8/ 517
(9) عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وذكر كيفية غسل الجنابة فقال: ليس قبله ولا بعد وضوء. وقال: المحقق الحلي في (المعتبر): روي من عدة طرق عن الصادق (عليه السلام) قال الوضوء بعد الغسل بدعة. وسائل الشيعة ٢/ ٢٤٦
(10) يرى فقهاء المذاهب الأربعة أن الوضوء قبل الغسل مستحب، ونقلوا عن عائشة زوجة النبي أن النبي كان يفعل ذلك. راجع الفقه على المذاهب الأربعة..
(11) في الوسائل 2/ 247 عن محمد بن مسلم، قلت لأبي جعفر (الباقر) عليه السلام: إن أهل الكوفة يروون عن علي عليه السلام أنه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة، فقال: كذبوا على علي عليه السلام ما وجدوا ذلك في كتاب علي، قال الله تعالى: وإن كنتم جنبًا فاطهروا.
(12) وسائل الشيعة 1/ 419
(13) الكافي 3/ 30 .. عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثم قال: يا زرارة قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونزل به الكتاب من الله لأن الله عز وجل يقول: "فاغسلوا وجوهكم" فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل ثم قال: "وأيديكم إلى المرافق" ثم فصل بين الكلام فقال: "وامسحوا برؤوسكم" فعرفنا حين قال: "برؤوسكم" أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه: فقال: "وأرجلكم إلى الكعبين" فعرفنا حين وصلها بالرأس أن المسح على بعضها ثم فسر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس فضيعوه ..
(14) الرواية لم توصف بالصحة لأن أحد رواتها وهو جعفر بن رزق الله لم تثبت وثاقته ولم يرد فيه مدح، كما ذكر السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج 1/ 193 إلا أن أصل الحكم ثابت بصحيحة حنان بن سدير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام (سألته عن يهودي فجر بمسلمة، قال: يقتل) سواء أسلم بعد ذلك أو لا.. وإنما استشهدنا هنا بالرواية عن الإمام أبي الحسن الهادي المفصلة في كيفية استفادة الإمام عليه السلام الحكم من القرآن وبيانه للناس كذلك.
(15) أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل / 267
السيد محمد باقر الصدر
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
السيد جعفر مرتضى
محمود حيدر
الشيخ محمد صنقور
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
أنصار الشك الحديث
تناول الشوكولاتة الداكنة مقترن بانخفاض نسبة احتمال الإصابة بالسكري من النوع الثاني
كتاب للشّيخ فوزي آل سيف بستّ لغات
هل المعصومون يجتهدون في القرآن؟
الأنبياء ودليل (الوحي) والنبوة
(كيد الشيطان) بين الشدة والضعف
النقد على صعيد الرغبات
معنى الضّلال في القرآن الكريم
آسية بنت مزاحم المرأة الشهيدة
زئبقيـة المتكلم الأيديولوجي