قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

القرآن وسبل تربية المجاهدين وتشجيعهم على الجهاد (1)

إن قضية التشجيع والاستعداد الروحي والمعنوي يمكن أن يعد من أولى العوامل التي تساعد الجيش على الغلبة والانتصار، وقد اعتنى القرآن بهذا الموضوع عناية فائقة، وأولى له اهتماماً بالغاً؛ وذلك من أجل إيجاد الأرضية المناسبة، والأجواء الروحية والمعنوية التي تساعد المجاهدين على الجهاد، وقد استعمل أساليب مختلفة من أجل تحقيق ذلك، وسنتناول هنا أسلوبًا واحًدا، وسنعرض بعض الآيات المتعلقة به.

 

طريقة الترغيب والترهيب

 

من الطرق التي كان الأنبياء (ع) يمارسونها لدعوة الناس إلى الدين الحق وأيضًا يستعملونها في تربية الناس وهدايتهم؛ من أجل التزامهم بالعمل، وقيامهم بالتكاليف في ضوء التعاليم الدينية والتكاليف الربانية؛ هي طريقة الترغيب والترهيب، أو التبشير والإنذار، ولذلك أطلق على الأنبياء (ع) اسم مبشرين و منذرين، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ). [1].

 

ومعنى الترغيب والترهيب ليس سوى ما هو متعارف في الاستعمالات العرفية، وهو كما يعبرون عنه بالتشجيع والتحذير، ومن أجل بسط البحث وتحليله أكثر سنتناول موضوع الترغيب والإنذار في مضمار الحرب والقتال بنحو منفرد بالإضافة إلى الآيات المتعلقة بكل واحد منهما.

 

1ـ نماذج من الآيات المتعلقة بالترغيب

 

هناك العديد من الآيات القرآنية تعرضت إلى موضوع ترغيب الناس وتشجيعهم وحثهم على الجهاد، فجاء في بعض الآيات الوعد بالنعم الأخروية للمجاهدين، وجاء في بعضها الآخر الوعد بالنعم الدنيوية لهم.

 

ومن الطبيعي أن المحور الأساسي في تعاليم الأنبياء (ع) وإرشاداتهم هو السعادة الأبدية والنعم واللذائذ الأخروية، إذ إن النعم والسعادة الدنيوية لا يمكن مقارنتها إطلاقاً بالنعم والسعادة الأخروية الأبدية، ولكن من الطبيعي أيضاً أن هناك طبقة عريضة من الناس ولأي سبب كان سواء يتعلق بضعف الإيمان وقلة العزم والهمة، أم لأن الأمر يرتبط بسرعة النعم واللذائذ الدنيوية، أم لأي سبب كان تعتبر أن النعم والخيرات الدنيوية أكثر جاذبية وإغراء، وهي أقرب للقلب والفؤاد، لذلك تعد محركاً قوياً ودافعاً حسناً لغرس النشاط، والسعي لدى هذه الطبقة من البشر.

 

من هنا إن القرآن في الوقت الذي رغب المجاهدين، وبشّرهم بالنعم واللذة الأخروية الأبدية، شجعهم أيضاً وحفزهم عن طريق وعدهم بنعم وخيرات دنيوية أيضاً، وهنا نعرض بعض الآيات المتعلقة بوعد الآخرة والنعم التي سيحصل عليها المجاهدون هناك، ومن ثم نتناول الآيات المرتبطة بوعد الدنيا والخيرات التي سيسبغها الله على المقاتلين في سبيله في هذا العالم.

 

البشرى بالنعم الأخروية

 

هناك مجموعة من الآيات القرآنية وضمن تعابير وكلمات مختلفة تبشر المجاهدين الذين قاتلوا في سبيل الله حتى بذلوا مهجهم ليتوجوا بوسام الشهادة، أو تضرروا وخسروا، وذهبت بعض أعضائهم جراء القتال، أو وقعوا في الأسر، أو الذين ذهبوا وشاركوا في الحرب، وقاتلوا العدو وناجزوه وخاطروا بأموالهم وأنفسهم، ورجعوا إلى أهلهم سالمين غانمين، فإن تلك الآيات القرآنية تبشر كل هؤلاء بنعم عظيمة وحياة طيبة خالدة، وهذه الآية الكريمة إحدى الشواهد على ذلك: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَوَةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). [2].

 

إن الآية تقرب موضوع القتال في سبيل الله عن طريق استعمال المعاملة التجارية والبيع والشراء (يشرون)؛ وذلك لأن هذا المعنى قريب من الجميع ويفهمه عامة الناس، وهذا المعنى سيكون مؤثراً حتى في الذين يفكرون ببيع دنياهم مقابل النعم الأخروية الخالدة، ويحسبون هذا الأمر على هذا النحو من المعاوضة سوف يهبون ويسارعون للجهاد في سبيل الله، قال تعالى: (لَّا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلَّاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا). [3].

 

وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ). [4].

 

وهذه الآية تحدثت بطريقة هي أقرب لفهم الإنسان واستئناسه؛ وقد ذكرت موضوع المعاملة التجارية، والبيع والشراء عندما أرادت أن تقرب موضوع القتال في سبيل الله، وفي هذا السوق الذي يشتري الله تعالى من المؤمنين مالهم وأنفسهم ويكون ثمنها الجنة والنعم الأخروية الخالدة، يتم فيه عقد الشراء والتعاهد بين الله والمؤمنين، الأمر الذي ذكره الله تعالى في كتبه السماوية، وحيث لا يوجد عقد أو عهد أضمن وأقوى عرى من عهده ووعده تعالى، لذلك يجب أن لا يتردد أحد في هذه التجارة، ويشكك في الربح العظيم الذي ينتظره المؤمنون في هذا العقد، وهذه المعاملة والفوز والسعادة الكبرى التي تعقب ذلك.

 

وفي آية أخرى يعبر الله تعالى عن حبه للمجاهدين الذي يقاتلون في سبيله باستقامة وثبات فيقول: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ). [5].

 

ويقول الله تبارك وتعالى في آية أخرى: إن الإيمان والجهاد في سبيل الله تجارة مربحة، تنجي الإنسان وتخلصه من العذاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ). [6].

 

البشرى بالنعم الدنيوية

 

هذا وقد وعدت مجموعة أخرى من الآيات القرآنية، وفي تعابير ومعان مختلفة تعد المجاهدين في سبيل الله بالنعم والخيرات الدنيوية أيضاً، ليدركوا أن سعيهم مثمر، وجهودهم نافعة ومفيدة في هذا العالم أيضاً، وهذا الأمر سوف يدفعهم إلى المضي في أداء الواجبات والمهمات الخطيرة والجليلة. ولكن لو لم يتضمن فعل الجهاد داعياً ربانياً، ونية صادقة للعمل بالتكليف، وخلا من قصد التقرب إلى الله تعالى، وكان باعث القتال هو الحصول على الجزاء المادي والدنيوي فقط، فمثل هذا العمل والسلوك ليس له أية قيمة في ضوء رؤية الإسلام وتعاليمه، وقد ركزت على هذه الحقيقية روايات عديدة.

 

وقد جاء في بعض الروايات: إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى فمن غزا ابتغاء ما عند الله عز وجل فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى[7].

 

وكيفما كانت الصورة، إن الوعد بالنعم الدنيوية والخيرات المادية يمكن أن يؤثر أيضاً في سلوك كثير من الناس وعملهم، ويدفعهم لمواجهة العدو وتقوي ثباتهم واستبسالهم عند القتال، لذلك لم يغفل القرآن الكريم عن مثل هذه الوعود والبشائر، وذكر بها في آيات ومناسبات عديدة.

 

وينبغي الالتفات إلى أن هذا اللون من التربية والتهذيب لا يختص بتعليم المجاهدين وتوجيههم فقط، بل وظف القرآن هذا الأسلوب أيضاً في مواطن عديدة غير الجهاد، وهنا نشير إلى بعض هذه الآيات القرآنية الخاصة بتبشير المجاهدين بالمغانم والنعم الدنيوية، فيقول الله تعالى في أحد المواضع مخاطباً المجاهدين المسلمين: (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا). [8].

 

وفي آية أخرى يكون وعده على هذا النحو: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا). [9].

 

البشارة عن طريق مدح المجاهدين والثناء عليهم

 

من الأساليب الأخرى التي يستخدمها القرآن، والتي يمكن أن تكون لوناً من ألوان الترغيب والتبشير، وغرس روح الاستعداد، ورفع المعنويات في نفوس المجاهدين، ودعوتهم للجهاد والقتال في سبيل الله هو أسلوب المدح، والإطراء على المجاهدين، وهنا نستعرض من باب المثال لا الحصر إحدى الآيات القرآنية التي تتناول هذا المضمون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). [10].

 

فهذه الآية تقول: إن بعض المسلمين لو تخلفوا عن أداء التكاليف المطلوبة منهم وعملهم، بل حتى لو ارتدوا عن دين الله فلن يضروا الله بشيء، لأن غرضه سوف يتحقق ومبتغاه سيمضي من خلال أناس غيرهم، وتسلط هذه الآية الضوء على صفات هذا الصنف ومزاياه من الناس فتمدحهم وتثني على مواقفهم، فمن هذه الصفات أنهم يحبون الله ويحبهم الله.

 

وتضيف الآية أيضاً أن هؤلاء يتواضعون أذلاء لعباد الله الصالحين، لكنهم أشداء أعزة على الكافرين، والأعداء والمنكرين لتعاليم الدين، ويجاهدون في سبيل الله، ومن هنا تراهم لا يكترثون عند الحرب بالهزيمة والانكسار، ولا يخشون أن يلومهم أحد.

 

وبالجملة لا يختلجهم أي قلق أو اضطراب من ذلك؛ بل انصبت كل جهودهم ومساعيهم على أداء التكاليف الإلهية، وأن يكونوا في أقصى درجات الانصياع والطاعة لأوامر الله تعالى، وفي ختام هذه الآية الكريمة يذكر الله سبحانه بأن هذه الصفات والنعوت التي يتحلى بها هؤلاء المجاهدون في النهاية هي عناية إلهية خاصة، وفضل، وكرم.

 

وعليه إن سياق هذه الآية ولحن الكلام الذي ورد فيها هو المدح العريض والثناء الجميل للمجاهدين في سبيل الله، وبسبب وجود الخصال الحميدة وأفضل تلك الصفات وأحزمها هي قتال الأعداء ومناجزتهم دون خشية لومة لائم، لذلك تراهم يستحقون كل هذا الإطراء من الله تعالى سبحانه، ومن الوضوح بمكان أن يكون هذا الأسلوب مؤثراً جداً، وله الأثر البالغ في نفوس المؤمنين والمسلمين، وموجباً لترغيبهم وتشجيعهم على مقاتلة أعداء الله ومحاربتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البقرة، ۲۱۳.

[2] النساء، ٧٤.

[3] النساء، ٩٥ – ٩٦.

[4] التوبة، ۱۱۱.

[5] الصف، ٤.

[6] الصف، ۱۰ – ۱۲.

[7] المجلسي، بحار الأنوار، ج۷، باب ٥٣، الرواية ٣٨.

[8] الفتح، ٢٠.

[9] الفتح، ۲۷.

[10] المائدة، ٥٤.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد