الإمام الخامنئي "دام ظلّه"
ثَمَّةَ آلاف النقاط العميقة والعذبة التي ذكرها العظماء والعلماء بشأن كلام الله المجيد، ولا تزال هناك آلاف وآلاف لا تُحصى من النقاط غير المذكورة. مهما قلنا عن القرآن، فلن نصل إلى ذروة فضيلته وقيمة هذا الكتاب السماوي العظيم. أعرض اليوم فكرة واحدة.... تلك الفكرة هي أننا كلما راجعنا القرآن الكريم، يجب أن ندرك أنه معجزة النبي (صلّى الله عليه وآله). القرآن معجزة، أي إن الله المتعالي أثبت نبوة نبي الإسلام الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بواسطة القرآن، وهذه قضية مهمة جدًا.
[القرآن] معجزة خالدة، والفرق بين هذه المعجزة وسائر معجزات الأنبياء هو أنّ تلك المعجزات كانت خاصّة بمرحلة ذاك النبيّ الكريم (عليه السلام) نفسه، وكانت مشاهدة تلك المعجزة الإلهيّة خاصّة بأولئك الناس آنذاك. ناقة صالح رآها الناس في ذلك الزمان فقط، وعصا موسى رآها الناس في ذاك الزمان فقط، فيما سمع الآخرون أخبارها فقط. لكن الناس يرون معجزة النبي (صلّى الله عليه وآله) على مرّ التاريخ وحتى آلاف الأعوام القادمة. إنهم يرون هذه المعجزة بأمّ أعينهم. هذا الاستمرار للإعجاز القرآني والإعجاز النبوي بركةٌ عظيمة لعالَم البشرية وعالَم الوجود.
كلّ شيء في القرآن معجزة؛ فلفظه معجزة ونظمه معجزة ومفاهيمه معجزة، وإخبار القرآن عن الماضي والمستقبل معجزة، وعرضه سنن عالم الوجود معجزة، وإخباره عن بطون الإنسان معجزة. كلّ شيء في القرآن معجزة، ونحن علينا أن نستفيد من هذه المعجزة الكبيرة وننتفع بها. إذا استفدنا من القرآن الكريم، فإنّ حياة البشر ستزدهر، وستُحلّ المشكلات كلّها. دروس القرآن للبشر دروسٌ عمليّة ويُمكن أن تُجرّب. هذا غير المعارف الراقية التي لا يتسنّى الوصول إليها سوى للعظماء والأولياء والمقرّبين. المقصود ممّا نقوله، هو ظواهر القرآن هذه، وهذه الكلمات نفسها التي نفهمها جميعًا، هذه [الآية] نفسها ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[1] يمكن لكلّ إنسان أن يستفيد من هذا، وعلينا أن ننظر إلى القرآن بهذه العين.
أودّ أن أطرح مثالًا يساعدنا في فهم عبرة التبيين القرآني. يقول القرآن على سبيل المثال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[2]، أي لو توكّلتم على الله المتعالي واعتمدتم عليه وارتكزتم إليه، فهو كافٍ لكم، ولا نحتاج أيّ وسيلة وعامل آخر لبلوغ المقصود. حسنًا، هذا درسٌ مهمّ وعام، ولكن ينبغي التدبّر فيه. ما الذي يعنيه هذا؟
إذا توكّلنا، فلن نحتاج إلى أيّ عامل آخر. وسط أيّ ظروف وضمن أيّ إطار تتحقق هذه الحقيقة الحتميّة والمسلّم بها؟ يجب توجيه السؤال بشأن هذا الأمر إلى القرآن ذاته. القرآن يحدد ذلك لنا. التوكل على الله وترتّب الأثر الناتج من التوكل عليه لهما شرط قلبي وشرط عملي وواقعي. إذا تحقق هذان الشرطان، فعندها ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، أي إنكم لن تحتاجوا إلى أيّ عامل آخر. هذان الشرطان، أحدهما شرطٌ قلبي. ما هو الشرط القلبي؟ الشرط القلبي هو أن تثقوا بصدق الوعد الإلهي ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾[3]. ثقوا بهذا الأمر، ثقوا أنّ الوعد الإلهي وعدٌ صادق وحتمي. هذا في المجالات القلبية للتوكّل. لن يتحقّق التوكّل إذا لم يكن هذا الأمر حاضرًا. لذلك تلاحظون أنّ الله المتعالي يذمّ الذين يسيؤون الظنّ بالله: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[4].
أي يجب ألّا تكون هناك إساءة للظنّ بالوعد الإلهي، وأن نعتقد بصدق قوله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾[5]. يجب أن تكون لدينا هذه الثقة، وهذا شرطٌ قلبي. أضيف هذه العبارة...: في ذاك الشرط القلبي، يجب أن يكون لدينا يقينٌ بأنّ المستحيل يصبح ممكنًا بإذن الله؛ الأمر الذي يبدو مستحيلًا، يصبح ممكنًا. يجب أن يكون لدينا يقينٌ بهذا الأمر.
أمورٌ كثيرة في عالمنا الموجود وحياتنا هي ضمن المستحيلات، مثل إحياء الميّت الذي هو من المستحيلات. يجب أن يكون لدينا يقينٌ أنه بإذن الله، ولو أنّ الله المتعالي أَذِنَ وأراد، فإنّ هذا الأمر المستحيل يصبح ممكنًا ويغدو واقعًا. كما إنّ القرآن ينقل في أحد المواضع عن النبي عيسى (عليه السلام) وفي موضع آخر عن الله المتعالي[6] نفسه: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[7]. أصنع من الوحل شكل حمامة أو حيوان أو طائر، ثمّ أنفخ فيه فيتحوّل إلى حمامة. أليس هذا من المستحيلات؟ لكنّ هذا المستحيل يصبح ممكنًا بإذن الله. ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[8]، الأكمه هو الأعمى منذ الولادة؛ يجعل الأعمى منذ الولادة يُبصر، ويُحيي الميت، بإذن الله. يجب أن يعتقد [الإنسان] أن المستحيلات في العالم كلّها والأمور التي لا يبدو تحقّقها ممكنًا، كلّها تتحقّق بإذن الله.
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[9]. فئة قليلة تستطيع الانتصار على فئة كثيرة، بإذن الله. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[10]؛ استطاعت مجموعة صغيرة محيطة بطالوت أن تغلب، بإذن الله، عدوًّا عاتيًا. هذا يعني أنّ غزّة تتغلّب على الكيان الصهيوني والنظام الأميركيّ بإذن الله! وهكذا كانت الحال. ألم يكن مستحيلًا؟ لو أنّهم قالوا لكم: من المقرّر أن تواجه غزّة الصغيرة جدًّا قوّة عظمى مثل القوّة العسكريّة لأميركا، وأن يتقاتلوا ثمّ تحقّق غزّة الغلبة، هل كنتم لتصدّقوا ذلك؟ ما كنتم لتصدّقوه. هذا من المستحيلات، ولكن هذا العمل ممكنٌ بإذن الله. هذا الشرط القلبي ضروري. أي يجب أن نعلم أنّ كل ما يبدو مستحيلًا في العالم يمكن أن يتحقق بإذن الله وبالإرادة الإلهيّة، ويمكن أن تتحقّق. هذا شرطٌ قلبي.
[وأمّا] بشأن الشرط العملي، الشرط العملي هو أنّه لحدوث هذا الحدث، يضع الله المتعالي جزءًا من العمل في عهدة الإنسان نفسه. ليس الأمر على هذا النحو بأن نجلس في بيوتنا ثم نقول ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[11]. كلّا، إنّ جزءًا من العمل هو في عُهدتنا، مثلما كان في قضيّة النبي عيسى (عليه السلام) جزء من العمل في عهدة النبي عيسى؛ صناعة ذاك الحيوان وذاك الطير من الطين، هذا ما كان ينبغي للنبي عيسى (عليه السلام) أن ينجزه بنفسه، فلو أنّه لم يفعله ما كان الطير ليتكوّن. هذا الجزء كان في عهدته هو.
لو أنّ النبي موسى (عليه السلام) لم يُلقِ العصا على الأرض، ما كان ليحدث ذاك الحدث ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)﴾[12]. ﴿أَلْقِهَا﴾ ضروريّة. ألقِ العصا، وعندما تُلقيها، ستتحقق النتيجة وستتجلّى المعجزة وسيتحقّق الأمر المستحيل، أي تحوّل العصا إلى ثعبان.
إذًا هذا شرطٌ عملي. يجب أن نتولّى جزءًا من العمل. ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾[13]. هذا ما يرويه القرآن عن التكليف الذي كُلّف به المسلمون في الصدر الأوّل. في مقدوركم التغلّب على الكثرة حتى وإن كنتم قِلّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] منها: سورة القمر، الآية 17.
[2] سورة الطّلاق، الآية 3.
[3] سورة النساء، الآية 122.
[4] سورة الفتح، الآية 6.
[5] سورة الحج، الآية 40.
[6] في سورة المائدة، الآية 110.
[7] سورة آل عمران، الآية 49.
[8] سورة آل عمران، الآية 49.
[9] سورة البقرة، الآية 249.
[10] سورة البقرة، الآية 251.
[11] سورة البقرة، الآية 249.
[12] سورة طه، الآيات 17 - 20.
[13] سورة الأنفال، الآية 65.
الشيخ محمد باقر الأيرواني
الشيخ محمد علي التسخيري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مصباح يزدي
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
الإمام المهدي (ع) بين التواتر وحساب الاحتمال (2)
مئة كاتب وكاتبة من الأحساء، جديد الكاتب محمد المبارك
الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم (1)
مفهوم الانتظار
القرآن معجرة
تساؤلات حول المهدي (1)
الفتنة الغالبة (4)
ورشة للفنّان محمّد الجنبي حول فنّ رقائق النّحاس
الإمام المهدي (ع) بين التواتر وحساب الاحتمال (1)
فكرة المهدي وجذورها في التاريخ