سيتمحور الحديث عن السنن القرآنية، وما هو المقصود بالسنن القرآنية، وسنتطرق أيضًا إلى القواعد التي تجري وفقها هذه السنن. فمثلًا عندما يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾[1]، ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾[2]؛ هذا الجريان وهذه المنازل هي القواعد والأسس التي وضعها الله عزّ وجلّ كنظام للخلق. وهذا النظام للخلق هو الذي نطلق عليه اسم التكويني؛ أي إن أصل التكوين عند البشر، وعند الدنيا كلها بسمائها وأرضها يقوم على قواعد وهي السنن التي وضعها الله عزّ وجلّ للكون ليسير بالطريقة اللازمة لصلاح الخلائق.
فيما يتعلق بالبشر هناك سنن أيضًا تتعلق بحياتهم، بتجاربهم، وبما أودع الله عزّ وجلّ فيهم. هذه مسائل ذكرها الله تعالى في آيات الآفاق وفي آيات الأنفس، وحدّثنا عنها سبحانه وتعالى مفصلًا، وطلب منّا التفكّر فيها لمعرفة على ماذا تقوم أصول الخلق ودلالته وحركته، وعلى ماذا تُبنى الحياة، ولماذا تتباغض الناس وتعادي بعضها؟ لماذا يتسافل بعض الناس وينحدر في الحياة الدنيا إلى مستويات أقرب ما تكون إلى الوحوش أو أدنى؟ في المقابل لماذا يترفع آخرون إلى مستوى يجعلهم يمثلون الصورة الأنقى للحياة والصورة الأنقى للبشر؟ هل هناك اختلاف في أصل خلقتهم، أو أن الله ساوى بينهم في الخلقة؟ من حيث الأساس ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[3].
ومن حيث الأساس أيضًا وضع الله عزّ وجلّ في كل خلقه سُنّة الخيار، وهي أعظم سُنّة يريد الله عزّ وجلّ أن يربّي الناس من خلالها؛ أي إن الإنسان لا يقدر أن يدّعي أن الإيمان والخوف من الله والتقوى هي خياره، وعندما تُعرض عليه الدنيا يركض نحوها، وعندما تتعارض مصلحته مع هذه المبادئ يتخلى عنها. فالكلام وحده لا يكفي، فعندما نتكلم عن الخيار يجب أن يكون الخيار مبنيًّا على إرادة، على صدق، وعلى قِيَم حقيقية، وهذا لا يحصل إلا بتقوية الإرادة. فالله تعالى يقول لنا إن السنّة الأساسية هي إرادتكم، وهذه الإرادة بحسب ما تُعملونها إما أن تجعلكم أحقر من أبشع المخلوقات، والعياذ بالله، أو أرقى من الملائكة.
كيف ينمي الإنسان إرادته؟ تنمو الإرادة عندما أَثبُت حين أتعرض لمجموعة من الأمور منها الابتلاءات، وأهمها الابتلاءات التي يُسميها القرآن “الفتنة”، أو “الامتحان”. هنا تتبلور الإرادة وتتبلور الشخصية، ويعرف الإنسان بأي اتجاه يسير. هذا نوع من السنن. هناك سنن أيضًا تتعلق بصراع الجماعات مع بعضها البعض وبالأخص جماعة أهل الخير وأهل الشر، فجماعة المستضعفين هم في صراع حاد مع أهل الاستكبار. والله عزّ وجلّ حدّثنا عن سننٍ في هذا الصراع، مثلًا لم يقل لنا أبدًا إن المؤمن لا يُقتل، وأنّ الصادق لا يُقتل، فلو تعرّض الإنسان لحادث قاتل سيموت سواء أكان نبيًّا أم كان وصيًّا أم كان مؤمنًا بارًّا أم كان إنسانًا عاديًّا. فالموت حق، وعندما يأتي السبب المعين لموت الإنسان فسيموت. هناك أسباب إذا لم تكن متوفرة في أي معركة قد تؤدي إلى خسارتها، وهناك فرق بين الهزيمة وبين خسارة معركة، مثلًا هناك من القوة عند الطرف المقابل ما ليس متوفرًا عندك مما يجعله يصغط عليك فلا تجد الفرصة لتهيّئ نفسك بالشكل اللازم لمواجهته فتخسر الحرب.
لكن الله عز وجل وضع لهذه الأمور سننًا موضوعية؛ أي إذا كنت تملك سلاحًا تستطيع إطلاق النار على العدو، لكن إذا لم تكن تمتلكه لا تستطيع ذلك. هذه تُسمى أمورًا موضوعية. إذا كنت تمتلك قدرات هائلة يمكنك أن تُلحق الأذى الكبير في خصمك وعدوك. لذلك أكّد الباري عز وجل على ضرورة أن يهيّئ الإنسان ويستعد ويجهز، وأن يلقي في قلب عدوه الرعب. وهذه سنة من السنن في النصر والهزيمة، وكما أن الاستعدادات المادية هي قاعدة وسنة من السنن في مسألة النصر والهزيمة، كذلك الحرب النفسية هي سنة من سنن النصر أو الهزيمة.
لكنّ الله سبحانه وتعالى اختص أهل الإيمان بميزة لا يستطيع غيرهم فهمها. فالذي يؤمن بأن للحياة امتدادًا إلى ما بعد الدنيا، والذي يؤمن أن الله هو أحكم الحاكمين، والذي يؤمن أن الرسالة لا تموت ولا تنتهي بموت النبي محمد (ص)، وأنها هي الأصل. فالأشخاص مهما كانوا عظماء، موتهم لا يعني موت الرسالة، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾[4]؛ النبي يمثل الرسالة، لكن هل نترك الرسالة بموته (ص)؟ الرسالة تبقى موجودة، وتبقى حاضرة ولا يصح أن نتركها.
إذًا، كيف نحفظ هذا الوضع؟ هنا تبرز الميزة التي اختصنا الله بها وهي الاحتكام دومًا إليه، أن يكون اتكالنا الدائم عليه سبحانه وتعالى، أن تكون نظرتنا للأمور إيجابية طالما أنها بحال من الإخلاص إليه وصدق وعدنا معه. طالما نحن كذلك، يمكن أن نخسر حرب، أن نخسر معركة أو معارك لكن لا يمكن أن نُهزم؛ لأن الهزيمة الفعلية هي أن تتحول كأنّما لم تكن شيئًا مذكورًا، وهذا مستحيل. فكيف يُهزم من بقي محافظًا على إنسانيته؟ هذه النقطة لا يفهمها إلا من يعرف الله، ولا يفهمها إلا من تدبر بسنن الله.
ماذا يعني التدبر؟ عندما يحدثنا الله تعالى عن قصة أُحد، لا يرويها كقصة، وعندما يحدثنا الله عن قصة النبي موسى لا يرويها مجرد قصة، بل لنأخذ منها عِبر من خلال التدبر، وأن نتدبر جيدًا بأن الذي حصل في حياة الرسالة مع النبي موسى هو عبارة عن إجراء للسنن الإلهية، وأن الذي حصل هو تعبير عن هذه السنن الإلهية فنتعلم منها. نتعلم مثلًا كيف نجّى الله بني إسرائيل وشقّ لهم البحر عندما كانوا مجتمعين حول ولاية النبي موسى، ولم يتمكن أكبر جيش بالعالم حينها من إدراكهم وهم لا حول لهم ولا قوة، فالعدو من خلفهم والبحر من أمامهم وهم ليس بيدهم إلا الالتفاف حول وليّهم. هذا الالتفاف حول وليّهم هو الذي مكّنهم، هو الذي رزقهم أن يشقّ الله لهم البحر فيخرجوا سالمين.
لكنّهم وقعوا في التيه عندما نكروا موسى وعبدوا العجل، وعندما استبدلوا الولي. حينها وقعوا في التيه وتشرّدوا في الأرض وما زالوا إلى اليوم لم يستطيعوا الاستقرار في أي مكان استوطنوا فيه. وحتى الآن وبالرغم من وجودهم في كيان قوي ومحمي عالميًّا لا يستطيعون التنعم بلحظة استقرار فيه، وكل معركة يخوضها هي عبارة عن عقدة نقص اتجاه مسألة الاستقرار. نعم هناك مظاهر قوة، لا أحد ينكر ذلك، ولكنهم وقعوا في التيه وهذا أمر يجب أن نحسب له ألف حساب.
بالمقابل، هناك من المسائل التي نتدبر بها بالسنن الإلهية تجعلنا نرتبط بها ونثبت عليها وهي أن نصدق الله. مثلًا عندما يقول لنا الله عندما تيأسون ولا يعود لديكم حيل ولا قوة ولكن إذا بقيتم محافظين على إخلاصكم ثقوا بأنني لا أترككم، بل أتدخل لنصرتكم، ولكن لا أحد يحتّم على الله متى يتدخل.
....أريد أن أذكر نموذجًا من الأمور التي ذكرها الله عزّ وجلّ بالقرآن لكي نرى مسألة السنن فيها، ومسألة التصديق في السنن. يقول الباري سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾[5]. في الصراع يمكر العدو مكره، يستنفر كل القدرات التي عنده في العسكر، في الأمن، التقنيات، الإعلام، وكل ما عندهم. إذًا الآية تقول: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[6]؛ أي كل ما عندهم من القدرة على المكر والحول والحيلة والقوة والدعاية، كل هذا إلى درجة أنهم يستطيعون أن يزيلوا جبالًا، وأن يزيلوا مدنًا ودولًا ويدمروها، لدرجة أن لديهم القدرة ليجتاحوا الدنيا والعالم، لكن رغم ذلك حتى لو كانوا على ما هم عليه ماذا تقول الآية؟ ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾[7]. فمهما استطالوا، مهما تعاظموا، ومهما وصلت قدراتهم وحولهم وقوتهم فالله سبحانه وتعالى لن يخلفكم الوعد، الله يعلم أنه قد بلغت القلوب الحناجر لكنه أنجاهم عندما نادوا “يا الله”، وهم نادوا يا الله لأنهم ما زالوا متمسكين بدين الله. ونداؤهم لم يكن كلمة بالفم اعتادوا أن يلفظوها، بل لأنهم مؤمنون فيها، لأنهم مقتنعون ومتمسكون فيها تمامًا، أنجاهم المولى سبحانه وتعالى. فإذًا ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾. في وجه المكر هناك عزة، وهناك مِنعة، وكل مكر يمكن أن يتحطّم بمواجهة العزة.
لذلك، إن الله عزيز ذو انتقام، وسينتقم لكم، وحين انتقامه سيتدخل هو مباشرة، هذه قاعدة، هذه سنّة إلهية، هذه قواعد السنّة الإلهية، هذه بُنى السنّة الإلهية، وهذا الأصل الذي تُبنى عليه هذه السنة الإلهية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة يس، الآية 38.
[2] سورة يس، الآية 39.
[3] سورة الزمر، الآية 6.
[4] سورة آل عمران، الآية 144.
[5] سورة إبراهيم، الآية 46.
[6] سورة إبراهيم، الآية 46.
[7] سورة إبراهيم، الآية 47.
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد مصباح يزدي
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسين الخشن
الشيخ فوزي آل سيف
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية
القرآن يغير حياتك في شهر الله
السّنن القرآنيّة
رمضان شهر الله
رمضان شهر التأمل
الشعور بالضغينة قد يجعل المرء معرّضًا أكثر للاعتقاد بنظريات المؤامرة
التفقه في الدعاء (10)
شهر رمضان فرصة لا تعوّض، وغنيمة لا تفوّت
(مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)
فوائد معرفة إدارة الغضب في العمل