قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عن الكاتب :
عالم عراقيّ وشاعر وأديب، ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1940 م، حوزويّ وأكاديميّ، حصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة الامتياز عام 1979 م، وعلى درجة الأستاذية عام 1988 م، وعلى مرتبة الأستاذ المتمرس عام 1993 م، ومرتبة الأستاذ المتمرس الأول عام 2001 م. له العديد من المؤلفات منها: موسوعة الدراسات القرآنية، موسوعة أهل البيت الحضارية، ديوان أهل البيت عليهم السلام، التفسير المنهجي للقرآن العظيم. توفي الله في 9 يناير عام 2023 بعد صراع طويل مع المرض.

مصادر تفسير القرآن الكريم (4)

والحق أن الدليل العلمي المقنع يعوز هؤلاء وهؤلاء، وقد يورد بعضهم المأثور عن أهل البيت عليهم السّلام: «إن دين اللّه لا يصاب بالعقول».

 

وليس فيه حجة لهؤلاء، إذ ليس الأمر كما ذهبوا إليه من إبطال حجية العقل كمدرك لكليات الأمور، بل المراد من قولهم عليهم السّلام: بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام ومداركها، أي أن الأحكام ومدارك الأحكام لا تصاب بالعقول استقلالًا «1». والظاهر أن هذه الأخبار وأمثالها إنما يعمل بها في مقام معارضة الاجتهاد بالرأي، والنص بالقياس، والعمل بالاستحسان بدعوى أن العقل الإنساني يدرك الأحكام بهذه الملاكات، فيستنبط في ضوئها ما يشاء دون الرجوع إلى نص أو أثر أو مدرك شرعي، وهذا منفصل عنه دون ريب.

 

أما أهل العقل فلا يذهبون إلى هذا بل يجعلون ميزانه التعرف على الأحكام في مجمل القو ، وأما تفصيله فهو يقودنا بطبيعة الموضوع إلى التدبر في مسألة أصولية، وهي مسألة أدلة التشريع عند المسلمين.

 

وأدلة التشريع عند الجمهور هي: الكتاب، السنة، القياس، الإجماع، والإجماع مختلف في مفهومه وانطباقه لديهم متنقلًا بين إجماع الأمة، وإجماع الصحابة، وإجماع أهل الحل والعقد، وهو مختلف فيه أيضًا بين أصول الدين وفروعه.

 

وأدلة التشريع عند الأصوليين من الإمامية هي: الكتاب، السنة، الإجماع، العقل.

 

وأدلة التشريع عند الأخباريين من الإمامية هي: الكتاب والسنة، ولا دور للإجماع والعقل معهما، أما عدم حجية الإجماع فتلخص: بأن الأمة لو اجتمعت على أمر، أو العلماء والفقهاء من الأمة، فإن كان هذا الإجماع كاشفًا عن رأي المعصوم عليه السّلام، فهو إذن من السنة فيعود إلى الأصل الثاني من أدلة التشريع، وإن لم يكن كاشفًا عن رأي المعصوم فلا قيمة عملية لإجماع العلماء بل الناس على شيء لا يستند إلى حجة نقلية.

 

وقد صرح المحقق الحلّي بهذا الملحظ، وهو من كبار الأصوليين فاعتبر الإجماع حجة بانضمام المعصوم إليه، لا بحد ذاته، وهو بذلك يوافق الأخباريين في الفكرة فيقول: «وأما الإجماع فهو عندنا حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله عليه السّلام، فلا تغتر إذن بمن يتحكم فيدعي الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين» «2».

 

وبهذا يظهر أن الإجماع عند الأصوليين حجة بانضمام المعصوم إليه لا مستقلًّا، ولا باتفاق العلماء مجردًا، وهو موافق لرأي الأخباريين في النتيجة بعدم اعتباره حجة، لأن قول المعصوم أو فعله أو تقريره هو السنة بعينها، على أن تحقق الإجماع زمن غيبة المعصوم، متعذر، لتعذر ظهوره، وتعذر دخول رأيه في جملة أقوال العلماء.

 

وقد ذهب إلى امتناع انعقاد الإجماع زمن الغيبة صاحب المعالم «3»، وأما دليل العقل، فقد حقق القول فيه الشيخ يوسف البحراني (ت : 1186 ه) وهو من أعلام الإمامية الأخباريين، وهو ينتصر لرأيهم حينًا، ويعارضهم حينًا آخر، ورائده في ذلك التحقيق العلمي، حتى ليظن أنه يعدل عن المذهب الأخباري، أو أنه في الأقل يصحح جملة من الآراء في ذلك.

 

قال قدس سره الشريف «قد اشتهر بين أكثر أصحابنا (رضوان اللّه عليهم): الاعتماد على الأدلة العقلية في الأصول والفروع وترجيحها على الأدلة النقلية... وعندهم متى تعارض الدليل العقلي والسمعي قدموا الأول واعتمدوا عليه، وتأولوا الثاني بما يرجع إليه، وإلا طرحوه بالكلية» «4».

 

وذكر رأي المحدث الجليل السيد نعمة اللّه الجزائري، وهو ينعى على الأصوليين أنهم: ما اعتمدوا على شيء من أمورهم إلا على العقل، فقالوا: إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي أو تأولناه بما يرجع إلى العقل «5». وعنده: إن كان الدليل العقلي بديهيًّا ظاهر البداهة، كقولهم: الواحد نصف الاثنين، فلا ريب بصحة العمل به، وإلا فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك، وإن عارضه دليل عقلي آخر، فإن تأيد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمؤيد بالدليل النقلي، وإلا فإشكال، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيد ذلك العقلي أيضًا بنقلي كان الترجيح للعقلي... هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق، أما لو أريد به المعنى الأخص وهو الفطري الخالي من شوائب الأوهام، الذي هو حجة من حجج الملك العلّام، وإن شذّ وجوده بين الأنام، ففي ترجيح النقلي عليه إشكال، واللّه العالم «6».

 

وهنا نشاهد البحراني يقسم الدليل العقلي إلى قسمين: الأول: الدليل العقلي البديهي، والثاني: الدليل العقلي الفطري. وهو يرى: أن العقل الصحيح الفطري حجة من حجج اللّه سبحانه وتعالى، وسراج منير من جهته جل شأنه، وهو موافق للشرع، بل هو شرع من داخل، كما أن ذلك شرع من خارج، ما لم تغيره غلبة الأوهام الفاسدة... وهو قد يدرك الأشياء قبل ورود الشرع بها فيأتي الشرع مؤيدًا له، وقد لا يدركها قبله، ويخفى عليه الوجه فيها، فيأتي الشرع كاشفًا له ومبينًا، فهو بهذا المعنى حجة إلهية.

 

أما بالنسبة للأحكام الشرعية فهي تحتاج إلى السماع من حافظ الشريعة، ووجوب التوقف والاحتياط مع عدم تيسر طريق العلم - عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السّلام - ووجوب الرد إليهم في جملة منها، وما ذاك إلا لقصور العقل المذكور عن الاطلاع على أغوارها، وإحجامه عن التلجج في لجج بحارها، بل لو تم للعقل الاستقلال بذلك لبطل إرسال الرسل، وإنزال الكتب «7».

 

وقد تولى الأستاذ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري (ت : 1281 ه) الرد على الأخباريين القائلين بعدم حجية العقل فقال: «ما ورد من النقل المتواتر على حجية العقل، وأنه حجة باطنة وأنه مما يعبد به الرحمن، وتكتسب به الجنان، ونحوها، مما يستفاد منه كون العقل السليم أيضًا حجة من الحجج، فالحكم المستكشف به حكم بلغه الرسول الباطني الذي هو شرع من داخل، كما أن الشرع عقل من خارج «8».

 

وبالنسبة للأخبار المانعة في ظاهرها عن العمل بالعقل فقد تأولها بأن المقصود من هذه الأخبار: عدم جواز الاستبداد بالأحكام الشرعية بالعقول الناقصة الظنية، على ما كان متعارفًا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة والاستحسانات من غير مراجعة حجج اللّه بل في مقابلهم عليهم السّلام، وإلا فإدراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة، بل لا نعرف وجوده «10».

 

وكان قبله قد قال «والذي يقتضيه النظر وفاقًا لأكثر أهل النظر أنه كلما حصل القطع من دليل عقلي فلا يجوز أن يعارضه دليل نقلي، وإن وجد ما ظاهره المعارضة فلا بد من تأويله، إن لم يمكن طرحه» «11».

 

ويعلل ذلك: بأن الأدلة القطعية النظرية في النقليات مضبوطة محصورة، ليس فيها شيء يصادم العقل البديهي والفطري «12».

 

ومما تقدم ظهرت وجهة النظر في دليل العقل بين المسلمين، ومنشأ الخلاف بين الأصوليين والأخباريين فيه، وهو في أغلبه خلاف لفظي مع حفظ الأصول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): محمد رضا المظفر ، أصول الفقه : 3 / 131.

(2) البحراني ، الحدائق الناضرة : 1 / 35.

(3) المصدر نفسه : 1 / 37.

(4) المصدر نفسه : 1 / 125.

(5) المصدر نفسه : 1 / 126.

(6) البحراني ، الحدائق الناضرة : 1 / 132.

(7): المصدر نفسه : 1 / 131.

(8) الأنصاري ، فرائد الأصول : 11 / طبعة حجرية / 1374 ه.

(9) المصدر نفسه : 11.

(10) المصدر نفسه : 10.

(11) المصدر نفسه : 11.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد