السيد محمد باقر السيستاني
تُعد واقعة الغدير واحدة من أبرز الأحداث التاريخية في السيرة النبوية، حيث تمثل نقطة فارقة في تاريخ الأمة الإسلامية، وقد ألقى النبي (ص) خطبته الشهيرة في يوم غدير خم، التي أعلن فيها عن ولاية الإمام أمير المؤمنين (ع)، مما جعلها حدثًا جماهيريا شهدته أعداد غفيرة من المسلمين.
لقد اتفق علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، على ثبوت هذه الواقعة وأهميتها، حيث أوردتها كتب السير والحديث، واعتُبرت من الأحداث المحورية التي تؤكد مكانة أهل البيت (ع) في الإسلام، والبحث عنها يقع في نقاط:
1ـ الاتفاق علی ثبوتها
لا شك لدی علماء المسلمین في ثبوت واقعة الغدير وأصل ما جاء فیها من عقد الولاء للإمام أمير المؤمنين (ع)، فأوردها عامة أهل السیر في أحداث السیرة النبویة في أحداث شهر ذي الحجة من السنة العاشرة، وتلقّاها الجمیع تلقّي حدث تاريخي ظاهر ومعلوم في عداد الأحداث التاریخیة الکبیرة من هذا القبیل.
وكذلك قد نقلها أهل الحدیث في کتبهم وصحّحها عامة علماء الحدیث ونقّاده فیما اهتموا به من السیرة أو ألفوه في فضائل الامام علي بن أبي طالب (ع).
هذا وقد انفرد نادر من أهل السیرة والمحدثین بإهمال واقعة الغدير، ولکن الإهمال لا يعني النفي کما هو مقرر لدی أهل العلم کافة، ولذلك فهو لا يعني وجود خلاف في الموضوع ولا ينفي وضوح ثبوت الحدیث وفق المقاییس المعتمدة.
فمن النادر بین أهل السیر ما صنعه ابن هشام في السیرة النبویة التي هي اختصار لسیرة ابن اسحاق، فحذفها من سیرته بعنوان التخلیص والإیجاز، فأوجب التعجب من صنیعه هذا، رغم أن الإعراض في مثله لا یعتبر إنکارًا لواقعة الغدير عند علماء التاریخ.
لکن ذلك أمر لا یجوز مثله بحال فإنه إخلال بالمنهج وبمقتضیات الأمانة، ولا یصح إهمال مثل واقعة الغدير والخطبة وهي حدث جماهیری عام حضره الآلاف من المسلمین، لا سیما أن بناء التاریخ علی ذکر الأحداث المعهودة دون المشاحّة في رجال الإسناد کما هو دأب المحدثین من أصحاب الصحاح کما هو معلوم لأهل الممارسة.
ومن النادر بین أهل الحدیث إعراض البخاري عن إیراد هذا الحدیث من دون قدح صریح، وقد استدرکه علیه جماعة من النقاد المتقدمین كالذهبي والمتأخرین کالألبان، وقالوا: إن الحدیث صحیح علی شرطه بمعنی أن الرجال الذین رووه قد روی لهم البخاري في صحیحه، ولم یکن له أن یمل هذا الحدیث بتاتًا.
وينبغي الالتفات في هذا السیاق إلى أن عدم ذکر واقعة الغدير لا یدل علی إنکارها ونفي صحتها کما هو معروف عند أهل فن الحدیث، إذ قد علم من خلال المقارنة والممارسة والتأمّل أن للإعراض عن ذکر الحدیث أسبابًا لدی بعض أهل الحدیث كالبخاري غیر الشك في صحته مثل تجنب تمسّك أهل البدع به، وکانت خطبة الغدیر هي المستمسك الأهم لإمامة أهل البیت (ع) التي اعتبرت بدعة لدی مدرسة الخلافة.
وأیًّا کان فإن إهمال واقعة الغدير حالة نادرة، لکنها لا تعني إنکار صدورها من أهملها عند أهل العلم. نعم، ربما وقع موقف شاذ صریح في التشکیك في ثبوت أصل واقعة الغدير، وهو ما صدر من ابن تیمیة في بعض کلماته فوقع موضعًا للنقد في هذا الموقف، واعتبر خروجًا ظاهرًا عن الموازین العلمیة، واعتبر سببه ضربًا من التسرّع، وقد یکون منشأه التحوّط لسلامة الاعتقاد بمدرسة الخلافة.
وقد عهدت من ابن تیمیة زلّات متعددة من هذا القبیل في شأن الروایات التي ترد في فضائل أهل البیت (ع)، وذلك معروف لمن سبر منهجه، وقد انتقده العدید من أهل العلم من بعده. هذا، وقد انقرض مثل هذا الموقف النادر والشاذ في أوساط المسلمین، فقد اتفق جمیع علماء الحدیث وأهل الفن فیه علی صحة هذه الواقعة وخطبتها وفق الموازین العامة للجرح والتعدیل.
ولذلك یمکن القول إن هذا الأمر هو متفق علیه بین علماء الحدیث ممن تعرض لتقییم روایة واقعة الغدير بنحو ما، فهناك من أوردها في کتابه الذي ألفه في الأحادیث الصحیحة والحسنة، ومن قیّمها في التعلیق علی کتب الحدیث وشرحها، أو من تطرّق لها ضمن مباحثه الکلامیة، فلا تجد أحدًا أنکر اعتبار هذا الحدیث عدا شاذ صرح علماء الفن بأنه غیر جار عی الموازین العلمیة ونشأ إنکاره من عدم المراجعة والاطلاع علی طرق الحدیث.
ولیس في عدم روایة البخاري واقعة الغدير شهادة نافیة لثبوتها لدی أحد من صیارفة الحدیث ونقاده، وإنما ذلك ما یظنه عوام الناس أو بعض المبتدئین، أو یتمسك به بعض أهل العصبیة والجدال، لأن من الواضح للغایة بالمتابعة والمقارنة أن البخاري ومسلم لم یستوعبا کل الأحادیث الصحیحة علی شرطهما وترکا بعضها.
والدلیل القاطع الواضح علی ذلك هو ورود کثیر من الأحادیث التي ترکاها بعین الأسانید التي رویا بها الأحادیث التي صححاها وأورداها وبروایة الرواة الذین رووا لهم بأعیانهم، وواقعة الغدیر من مصادیق هذه الحالة، فإن العدید من طرقها صحیحة وفق شروط البخاري ومسلم کما صرح به جماعة من أهل العلم، ومنهم الذهبي والألباني من المتأخرین.
2ـ ثبوت الواقعة بالثبوت التاریخي والمتواتر والصحیح
إن مستوی اعتبار هذا الحدیث لیس مقصورًا علی الخبر الصحیح باصطلاح علماء الحدیث، بل یرقی إلى مستوی الحدث التاريخي المشهور، بل إلى الخبر المتواتر کما صرح بذلك جماعة من المحدثین النقاد من أهل السنة. وینبّه علی ذلك أن بعض المحدثين وأصحاب السير خصه بکتاب مفرد منهم:
1ـ الطبري صاحب التاریخ والتفسیر، وهو من أئمة الفقه، حیث بلغه تشکیك بعضهم في هذا الحدیث، فاهتم بإثباته وألّف فیه کتابًا مفردًا في جزأین[1].
2ـ ابن عقدة الزیدي وهو حافظ مشهور، فقد قیل إنه استوعب طرق الحدیث، وقد وقف علیه ابن حجر العسقلاني وقال عن طرقه: منها صحاح ومنها حسان[2]، واهتم جماعة من أهل النظر والتتبّع برصد طرق روایة واقعة الغدير ورواتها وشواهدها في التاریخ والأدب.
وتوضیح ذلك أن هناك ثلاثة أنواع من الطرق معهودة لثبوت الوقائع والأقوال – وقد ثبتت واقعة الغدير بها جمیعًا ـ.
الطریق الأول: الطریق التاریخي
والمراد به أن الواقعة الاجتماعیة العامة یحصل الوثوق برواتها وفق المعتاد في روایة التاریخ ما لم یکن هناك معارض لها، بالنظر إلى أن خلق واقعة واسعة بهذا الحجم التي حضرها عشرة آلاف من الرجال علی آقل تقدیر، وقیل بل عشرات الألوف، وفیهم جمهور المهاجرین والأنصار من غیر أن تکون قد وقعت أصلاً.
أو تحریف نصوصها إلى غیر وجهها، مظنة للانکشاف أو الریبة في شأن الراوي، وذلك ما یتجنبه الرواة حتی کثیر من الضعفاء منهم، ولیس هناك من حدیث معارض ينفي واقعة الغدير. وعلی هذا الطریق یعوّل عمومًا في إثبات أحداث السیرة النبویة، فإنها لم تُرو روایة مسندة ثقة عن ثقق غالبًا، بل هي أخبار مراسیل رواها الإخباریون المعنیون بالسیرة في سیاق حکایة التاریخ.
وهذا الطریق یتحقق بوضوح في شأن خطبة الغدیر، لأن من غیر الوارد أن تکون حکایة واقعة استثنائیة وقعت في أثناء الطریق بهذا الحجم الواسع الذي یدعی فیها حضور ألوف من الناس بما فیهم عامة الوجوه والقادة من رجال المهاجرین والأنصار حکایة ملفقة لأمر لم یقع بتاتًا.
وهذا أمر ظاهر وفق قواعد إثبات التاریخ، فواقعة الغدير إنما هي من قبیل الوقائع الکبیرة التي لا یتأتی تزویرها في عصر قریب منها کما هو الحال في الحروب والغزوات الکبری.
والواقع أن حدیث الغدیر أولی بالثقة من کثیر من حوادث السیرة النبویة التي یعتمدها عامة المؤرخین والمحدثین وأصحاب السیر، لأن حجم واقعة الغدير أوسع، ومؤشرات کذبها لو کانت کاذبة ستکون أوضح من الوقائع الأخری، لا سیما أنها تضمّنت موضوعا حساسًا وخطيرًا لدی جمهور المسلمین.
هذا، وينتمي الطریق التاريخي في الحقیقة إلی نوع أعم، وهو الطریق الذي یعوّل فیه علی احتفاف الخبر بالقرائن المؤکدة بأنواعها المختلفة من الاعتبارات التاریخیة وتعدد الرواة واذعان المؤرخین غیر المتهمین والشواهد الأخری.
الطریق الثاني: الروائي المتواتر
هو الطریق الروائي المنقول علی سبیل التواتر، والمراد به أن تتعدد حکایة الخبر من طرق متعددة یوثق بأنها لا تنشأ عن أصل واحد، وقد اقتفی بعضهم أثر بعض آخر.
ومعرفة تحقق التواتر في أحداث السیرة النبویة وأقوال النبي محمد (ص) نوعًا ما بحاجة إلی الاطلاع علی تاریخ الحدیث ومصادره وأحوال الرواة في الجملة، وإلا احتمل الناظر البعید عن مثل ذلك – في بادي النظر – وضع الحدیث ابتداء من قبل واحد، ثم اقتفاء الضعفاء إیاه وإسناده إلى آخرین حتی تراءت له طرق مستقلة وهي لیست كذلك، بل الأصل فیها شخص واحد قد وضع الحدیث.
وقد ثبت تواتر حدیث الغدیر في جملة: من کنت مولاه فهذا علي مولاه، عند جماعة من النقاد من محدثي أهل السنة، الذین اطلعوا علی سعة طرقه ومصادره، وهو أمر ظاهر شریطة أن یکون الباحث مجهزًا بمعرفة علوم الحدیث وتاریخه ومصادره وطبقات الرواة وأحواهم.
الطریق الثالث: الروائي المعتمد
وهو الطریق الروائي المعتمد ویوصف بالصحیح أو الحسن، وهو عند المحدثین علی ضربین:
1. الطریق المعتمد علی الثقة بآحاد الرواة
الطریق المعتمد علی الثقة بآحاد الرواة في جمیع طبقات الإسناد المتصل حتی ينتهي إلى النبي (ص).
ومن البديهي عند المحدثین النقاد تمامیة هذا الطریق في شأن واقعة الغدیر، مهما تشدّد الباحث في قبول الروایة واعتبر شروطًا أشد في قبوها، ولذلك صرح جماعة من النقاد بثبوت واقعة الغدير علی شروط البخاري ومسلم في الصحیحین، بل هذا الحدیث أولی بالثقة من جلّ روایات الصحیحین حسب أدنی مقارنة بین طرقها وأوصاف رجالها، ولذلك صرّح غیر واحد من أهل العلم كالذهبي وابن حجر بصحة العدید من طرق الروایة، بینما توقف بعضهم في صحة بعض أحادیث الصحیحین.
2. الطریق المعتمد علی تقویة الطرق الحسنة
الطریق المعتمد علی تقویة الطرق الحسنة بعضها بعضًا من خلال الشواهد والمتابعات وفق ضوابط محددة في علم درایة الحدیث.
وهذا طریق معروف عند المحدثین ولا یندرج به الحدیث عندهم في عنوان الصحیح لذاته، ولکنه یوصف بأنه صحیح لغیره، فهم قد یعتمدون علی حدیث الراوي من جهة اقترانه بغیره أو ورود اطریق آخر یشهد له ویساعد علیه. وجملة من طرق واقعة الغدیر هي طرق حسنة واجدة لشرائط الثقة بالتقویة والمتابعات کما ذکره النقّاد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لاحظ: ابن كثير، البداية والنهاية، ج5، ص227.
[2] لاحظ: المناوي، فيض القدير، ج6، ص282.
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي المشكيني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد جواد مغنية
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (5)
توقيت القيلولة النّهاريّة ومدّتها عامِلا تنبُّؤٍ باحتمال وفاة كبار السّنّ
ثبوت واقعة الغدير من منظور تاريخي وعلمي (1)
أفضل توزيع للخيرات في العام!
كيف يكون الله حاضراً في حياتنا؟
﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَهُ﴾
فائدة البحث في المكّي والمدني من السور القرآنية
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (4)
ناصر الوسمي في نادي روافد الأدبي: ما لم تقله العتبات
المبدعون أوتاد الله في أرضه