إذا اتَّضح ما ذكرناه وتبيَّن أنَّ مجموع الأمور الأربعة مُنتجة للاطمئنان بصحَّة ما ادَّعيناه نشير إجمالا واستكمالاً للبحث لما قد يرد من إشكال حول بعض الأمور المتصلة بالبحث:
الإشكال الأول: وهو يرتبط برواية الكشي التي نقلناها فيما سبق، وحاصل الإشكال أنَّه قد يقال إنَّ الرواية لا ظهور لها في أنَّ الإمام السجاد (ع) كان قد وَليَ شأن تجهيز والده الحسين (ع)، وذلك لأنَّ الإمام الرضا (ع) كان في مقام الاحتجاج على ابن أبي حمزة البطائني، فأقصى ما يظهر من الرواية هو أنَّ الإمام الرضا (ع) أراد القول بأنَّ افتراض تمكُّن عليِّ بن الحسين (ع) من العودة إلى كربلاء وتجهيز والده (ع) يقتضي إمكانيَّة حضوره إلى بغداد لتجهيز والده الإمام موسى بن جعفر (ع) أي أنَّه إذا جاز عقلاً صحَّة الفرضيَّة الأولى فلماذا يمتنع افتراض صحَّة الثانية، فليس في الرواية ما يقتضي ظهورها في إقرار الإمام (ع) بوقوع القضيَّة الأولى وهي تصدِّي السجاد (ع) لتجهيز والده الحسين (ع).
والجواب عن هذا الإشكال:
أنه لو تمَّ القول بعدم ظهورها فيما ادعيناه فإنَّ ذلك لا يؤثر على النتيجة التي خلصنا إليها، ذلك لأنَّها لم تكن وحدها الذي تمسَّكنا به حتى يكون إسقاطها منتجاً لسقوط الدعوى، على أنَّ القول بعدم ظهورها في المطلوب ساقط جداً، وذلك يتَّضح بالوقوف على ما هو الشيء الذي كان يُنكره عليُّ بن أبي حمزة على الإمام الرضا (ع) فالذي يظهر من الرواية وما هو المعلوم قطعاً من غيرها أيضاً أنَّ عليَّ بن أبي حمزة كان يُنكر إمامة الإمام الرضا (ع) ويدَّعي عدم موت الكاظم (ع) وقد جاء ومَن كان معه إلى الإمام الرضا (ع) لغرض البرهنة على صوابيَّة إنكارهم لإمامته، لذلك سألوه أولاً كما في الرواية "ما فعل أبوك قال: مضى، قال: مضى موتاً قال: (ع) نعم، قال: فقال: إلى مَن عهِد؟ قال (ع): إليَّ، قال: فأنت إمامٌ مفترضُ الطاعة من الله. قال (ع): نعم.
قال ابن السراج وابن المكاري: قد والله أمكنك من نفسه .."(1) ثم بدأ ابنُ أبي حمزة بالاحتجاج عليه .. قال: إنَّا روينا عن أبائك أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله .."(2).
فأراد أن يقول أنَّك لم تحضر لتجهيز والدك الذي تدَّعي خلافته، فلو كنتَ إماماً لكنت مَن تولَّى تجهيزه لأنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، وهذه القضيَّة بصغراها وكبراها تقتضي هذه النتيجة وهي أنَّ الإمام الرضا (ع) لم يكن إماماً.
ويكفي لإسقاط هذه النتيجة اعتماد أحد الطرق الآتية:
الطريق الأول: إنكار الكبرى وهي أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، فحيثُ أنَّه (ع) لم ينكرها فذلك تعبيرٌ عن إقراره لها وتأكيده على صدقها، وما قد يقال إنه لم يكن يسعه إنكارها لأنَّهم لن يقبلوا ذلك منه نظراً لعدم إيمانِهم بإمامته فيكون إنكارُه بغير حجَّة بنظرهم، إذ لهم أنْ يردُّوا على إنكاره لو أنكر بأنَّ هذه الكبرى مستندة إلى حجَّة وهي ما نرويه عن آبائك الذين تُؤمن أنت بإمامتهم، فلأنه لم يكن يسعُه الإنكار لذلك اتَّخذ طريق المجاراة معهم ليخصمهم بعد ذلك بقولهم.
لو قيل ذلك فإنَّه يُجاب عنه بأنَّه لو لم يكن يُصحِّح الإمام هذه الكبرى لوسعه أنْ يُكذِّبهم ويُنكر عليهم روايتهم ذلك عن آبائه، بأنْ يؤكد أنَّ قول آبائه وانْ كان حجَّة إلا أنَّ دعواكم أنَّ ذلك ممَّا قد صدر عنهم كذبٌ وافتراء، وحينئذٍ تسقط الكبرى التي أرادوا التمسُّك بها للوصول إلى غرضهم نظراً لكونها غير مبرهَنة ولا مسلَّمة للخصم، فتكذيبُهم لو لم تكن القضية واقعيَّة كان هو الأيسر على الإمام لإسقاط دليلهم.
على أنَّ الإمام لو أنكر عليهم هذه القضية لم يكن من الصعب عليه البرهنة على إنكاره كما فعل ذلك في الحجَّة الأخرى التي احتجُّوا بها على الإمام (ع).
فقد ورد في نفس الرواية أنَّ عليَّ بن أبي حمزة قال للإمام (ع) لقد أظهرت شيئاً ما كان يُظهره أحد من آبائك ولا يتكلَّم به فقال الإمام (ع): بلى والله لقد تكلَّم به خير آبائي رسول الله (ص) لما أمره أن يُنذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم إنِّي رسولُ الله إليكم، وكان أشدَّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمُّه أبو لهب فقال لهم النبيُّ (ص) .. إنْ خدشني خدشٌ فلستُ بنبيٍّ، فهذا أول ما أُبدِعُ لكم من آية النبوَّة، وأنا أقول إنْ خدشني من هارون خدشاً فلستُ بإمام فهذا ما أُبدع لكم من آية الإمامة(3).
فابنُ أبي حمزة في هذه الفقرة احتجَّ على عدم إمامة الإمام بدعوى أنَّ السيرة القطعية للأئمة (ع) كانت جارية على إخفاء إمامتِهم وعدم البوح بها إلى مستوىً يؤدِّي إلى علم السلطان، فلأنَّ الإمام الرضا (ع) قد أظهر إمامته فذلك يُنافي ما عليه سيرة الأئمة (ع)، وهو دليل على عدم إمامته بزعمه.
فكان جواب الإمام (ع) هو إنكاره للكبرى التي تمسَّك بها عليُّ بن أبي حمزة ثم أنَّه تصدَّى للبرهنة على إنكاره بأمرين أحدهما الإشارة إلى الآية وأنذر عشيرتك الأقربين والثانية أنَّه تحدَّاه أنْ يتمكَّن هارون من أنْ يمسَّه بسوء وهو إخبارٌ عن الغيب.
ثم إنَّ من غير المناسب أن يُفترى على آبائه الطاهرين في محضره وفي قضيةٍ هي من الخطورة بحيث يكون عدم تفنيدها موجباً لضلال الكثير من الناس، من غير المناسب أنْ يكون الأمر كذلك ثم لا يتصدَّى لتكذيب هذه الفِرية، خصوصاً وأنَّ واحداً من أهمِّ وظائف الإمام هو ردُّ الشبهات الاعتقاديَّة بنحوٍ ينتفي أثرُها في التضليل، ودعوى عدم ظهور جواب الإمام في التسليم بالقضية لا ينهض لمستوى الإنكار لصدقها وهو خلفُ وظيفته من جهة وإهمالٌ لخطورة الأثر المترتِّب على عدم التصريح بالإنكار من جهةٍ أخرى.
إذن فعدمُ تصدِّي الإمام (ع) صريحاً لإنكار الكبرى وهي أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله يساوقُ الإقرار بها والتصديق بصوابيَّتها.
الطريق الثاني: لإسقاط النتيجة التي يروم البطائني الوصولَ إليها وهي البرهنة على عدم إمامة الإمام الرضا (ع) هو أنْ يتصدى الإمام الرضا (ع) لنفي إطلاق الكبرى بأنْ ينفي أن تكون هذه القضية مطَّردة مع كلِّ إمام، وهو (ع) لم يفعل ذلك فلم ينفِ إطلاق أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، وذلك يقضي الإقرار بتماميَّة إطلاقها.
ولو قيل إنَّ الإمام نفى الإطلاق بواسطة التمثيل بما وقع للإمام الحسين (ع) فكأنَّه أراد القول أنَّ هذه القضية غير مطَّردة بدليل أنَّ الإمام الحسين (ع) كان إماماً باعترافكم ومع ذلك لم يتصدَّ لتولِّي شأنه الإمامُ السجاد (ع) رغم أنَّه الإمام باعترافكم، فتمثيله بالإمام الحسين(ع) تعبيرٌ آخر عن عدم قبوله باطِّراد القضية.
والجواب: إنَّ الإمام الرضا (ع) لو أراد من تمثيله بالإمام الحسين (ع) الطعن في إطلاق الكبرى لأنكر على البطائني دعواه أنَّ الإمام السجاد (ع) كان قد خرج من الحبس من حيث لا يعلمون وتولَّى شأن أبيه ثم عاد إلى الكوفة، فعدمُ إنكاره عليه ذلك يُظهر البطائني في مظهر الغلبة وأنَّ ما أراد الإمام (ع) أنْ يتمسَّك به لإثبات عدم اطِّراد الكبرى لم يكن تامَّاً.
فكان على الإمام (ع) لو أراد نفي الاطِّراد للكبرى أنْ يؤكِّد عدم وقوع ما أدَّعاه من تولَّي السجَّاد (ع) لشأن الحسين (ع) لا أنَّه يُجاريه ليثبت له بعد ذلك إمكانيَّة حضوره إلى بغداد لتجهيز والده الإمام موسى بن جعفر (ع).
إذ أنَّ هذه المجاراة لو كانت كذلك لانتهت إلى نفس الإشكال والذي ذكرناه أولاً وهو التسليم بالكبرى واطرادها أو على الأقل عدم الظهور في الإنكار الموجب لاحتمال التضليل إذ أنَّ الإمام لم ينفِ الكبرى بذلك ولم ينفِ اطّرادها بعد أنْ لم يُنكر على البطائني دعواه بأنَّ السجاد (ع) خرج من الحبس وتولَّى شأن والده، وكلُّ ما فعله الإمام بناءً على ذلك هو إثبات إمكانيَّة حضوره بعد أنْ أمكن للسجَّاد الحضور إلى كربلاء وهو في الحبس، وهذا المقدار لا يُلغي البحث ولا يُوجب خصم البطائني، لأنَّ من المُستبعَد جداً أنَّ البطائني لا يُدرك إمكانيَّة حضور الإمام إلى بغداد وهو الذي يُؤمن بإمامة الأئمة السبعة واعترف بإمكانيَّة حضور السجاد إلى كربلاء وقد كان في الحبس.
فالمتعيَّن أنَّ الإمام الرضا لم يقصد من تمثيله بالإمام الحسين (ع) النقض على اطّراد الكبرى بل قصد استدراج البطائني من خلال قضيَّة واضحة ومسَلَّمة.
والذي يُؤكِّد أنَّ الإمام (ع) لم يكن بصدد الطعن في إطلاق الكبرى ما ورد في نفس المناظرة من إنكاره على البطائني دعواه أنَّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه، فالإمامُ (ع) هنا أجابه أنَّ هذا الخبر ليس على إطلاقه وتصدَّى لتأكيد ذلك بما يُوجب اندفاع الشبهة التي أراد البطائني تمريرها.
"قال له عليُّ البطائني: إنا روينا أنَّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه؟ قال فقال أبو الحسن (ع): أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟ قال: لا، قال: بلى والله لقد رويتم فيه إلا القائم وأنتم لا تدرون ما معناه ولِمَ قيل، قال له عليٌّ: بلى والله إنَّ هذا لفي الحديث، قال له أبو الحسن (ع) ويلك كيف اجترأتَ عليَّ بشيءٍ تَدعُ بعضه"(4).
هذه الفقرة من المناظرة تصدَّى فيها الإمام (ع) لنفي دعوى الإطلاق بصورةٍ واضحة لا تدعُ مجالاً لتمرير الشبهة، وذلك ما يُؤكِّد أنَّ الإمام (ع) في الفقرة موردَ البحث لم يكن بصدد نفي الإطلاق.
الطريق الثالث: لإسقاط النتيجة التي يريد البطائني الوصول إليها هو أنْ يدَّعي الإمام أنَّه حضر إلى بغداد وتولَّى شأنَ أبيه الإمام موسى بن جعفر(ع)، إذ أنَّه بذلك يُسقط الحجَّة التي أراد أنْ يعتمدها البطائني، لأنَّها تتقوَّم بمقدمتين، الأولى هي قضية أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، والثانية أنَّ عليَّ بن موسى (ع) لم يتولَّ أمر والده الإمام موسى بن جعفر (ع)، فإذا لم يتمكَّن البطائني من إثبات ذلك تكون حجَّتُه ساقطة، فحيث أنَّ المقدمة الأولى كانت تامَّة فالمتعيَّن هو عدم تماميَّة المقدمة الثانية.
والواضح من الرواية أنَّ البطائني لم يستطع إثبات عدم حضور الإمام الرضا (ع) إلى بغداد إذ لو كان عنده من حجَّة على ذلك لذكرها ولما انتقل إلى محورٍ آخر.
قد يُقال إنَّ الإمام لم يذكر في المناظرة أنَّه حضر إلى بغداد وقام بتجهيز والده، فكأنَّه سلَّم بالمقدمة الثانية فالمتعيَّن أنَّ المنفي هو المقدمة الأولى أو إطلاقها، قلنا إنَّه اتَّضح ممَّا تقدَّم إقرار الإمام بتماميَّة المقدِّمة الأولى إذ أنَّ عدم إنكارها صريحاً لو كانت فاسدة يقتضي الإيقاع في التضليل وذلك مناف لوظيفته الشرعية كما أنَّه غير مناسبٍ لما وقع منه في الفقرات الأخرى من المناظرة.
وبذلك يتعيَّن أنَّ نفس الإقرار بالكبرى يُساوق إخباره بالحضور إلى بغداد، لأنَّ من غير المعقول أنَّه كان بصدد الدفاع عن إمامته وفي ذات الوقت يسلِّم بما هو نقيض غرضه إلا أنْ يكون إقراره بالكبرى عيَّن إخباره بالحضور وهو المطلوب.
قد يقال إنَّ مجرد إخبار الإمام بحضوره إلى بغداد لا يُثبت الحضور واقعاً عند الخصم لأنَّه غير مسلِّم بإمامته. فإنه يقال لا يحتاج الإمام إلى إثبات ذلك لأنَّه كان بصدد دفع الحجَّة التي أراد أن يتمسَّك بها البطائني، فكان يكفي في سقوطِها عدم التسليم بالصغرى وحينئذ يلزم البطائني كما هو مقتضى المنطق العقلي أن يُبرهن على صحَّة الصغرى، وهي عدم حضور الإمام إلى بغداد وإلا لم تكن ثمة من قيمة لبرهانِه.
فلو جاءك أحد وقال: إنَّه لا يكون الشيء حيواناً إلا أنْ يكون حساساً، والسمك غير حسَّاس إذن هو ليس بحيوان، فإنَّه يكفي لإسقاط هذه النتيجة وهي أنَّ السمك ليس بحيوان عدم التسليم بالصغرى وهي أن السمك غير حساس، وحينئذ يكون على المؤلف للقياس أن يُبرهن على صدق الصغرى وليس على الطرف الآخر أن يُبرهن على كذب الصغرى.
قد يقال إنَّه إذا كان التسليم بكبرى أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام يُساوق إخبار الإمام بأنَّه كان قد حضر إلى بغداد فلماذا لم يُبرهن الإمام على حضوره تأكيداً لفساد دعوى البطائني.
فإنَّه يقال لا سبيل لإثبات ذلك إلا بأحد أمرين، إما بإيمانهم بصدق الإمام (ع) وهم لا يؤمنون بصدقه فضلاً عن صدق شهودِه لو جاءهم بشهود فإنَّهم سيدَّعون ممالئتهم للإمام (ع)، وهم قد كذَّبوه في أول المناظرة عندما أخبرهم أنَّ أباه قد عهِد إليه وانَّه قد مضى وانَّه إمام مفترض الطاعة.
والسبيل الثاني لإثبات حضوره هو الإعجاز، وذلك لن يجدي معهم أيضاً نظراً لتعنُّتهم، وقد أعطاهم أمارة إعجازيَّة في المحاجَّة الأولى حيثُ أفاد جازماً أنَّ هارون لن ينال منه خدشاً فلم يقنعوا منه بذلك، فلو كانوا يبحثون عن الحقيقة لكان عليهم الصبر والتربُّص ليتبيَّنوا صدق دعواه العلم بالغيب من عدم صدقه، فرغم أنَّ احتمال أنْ يناله السلطان هارون بسوء كان قريباً جداً ومع ذلك أفاد جازماً انَّه لن يصل إليه بسوء، فما اكترثوا بما أفاده الإمام (ع).
على أنَّه لا حاجة كما ذكرنا إلى أنْ يُثبت الإمام لهم انَّه قد حضر إلى بغداد بعد أن كان مجرَّد الإخبار بالحضور كافٍ لإسقاط حجَّتهم.
وبما ذكرناه يتبيَّن أنَّ ذكر الإمام الرضا (ع) لما وقع للإمام الحسين (ع) كان لغرض رفع الاستيحاش عن دعواه الحضور إلى بغداد ولغرض استدراج البطائني ليظهر بعد ذلك في مظهر المتعنِّت، إذ أنَّه لمَّا أن قبل بتولِّي السجاد لشأن أبيه (ع) رغم أنَّه كان محبوساً في الكوفة يكون إنكاره دون برهان لحضور الإمام الرضا (ع) إلى بغداد ناشئاً عن تعنُّتٍ وعناد.
فالإمام الرضا (ع) لم يقصد من التنظير بالإمام الحسين (ع) البرهنة على الحضور إلى بغداد إذ أنَّ ذلك لا يُثبت الحضور كما هو واضح وكذلك لم يقصد البرهنة على إمكانيَّة الحضور، إذ لا حاجة لإثبات ذلك بعد أن كانت الإمكانيَّة واضحة وهي ليست مورداً لإنكار الطرف الآخر، نعم قصد الإمام القول بأنَّ البطائني لمّا كان يقبل بدعوى أنَّ الإمام السجاد قد وليَ شأن أبيه الحسين (ع) رغم أنَّه لم يعلم بذلك وجداناً وإنَّما علم به بواسطة الأخبار فلماذا يُنكر حضور الإمام الرضا (ع) إلى بغداد رغم إخباره بذلك، والظاهر أنَّ البطائني لم يتلقَ خبر تولِّي السجاد لشأن أبيه من الأئمة مباشرة وإنَّما تلقَّى ذلك من الرواة، إذ لو كان قد تلقَّاه من الأئمة لقال روينا ذلك عن آبائك كما كان يردِّد ذلك في كلِّ خبرٍ يرويه عن الأئمة (ع) في هذه المناظرة.
وبذلك يتأكد أنَّ الإمام قصد من تنظيره بالحسين (ع) استدراج البطائني لإظهاره في مظهر المتعنِّت المعاند، إذ من غير المنطقي أنْ يقبل بالأمر الأول لمجرَّد الإخبار ويُنكر الأمر الثاني دون أنْ يكون له برهانٌ على إنكاره، وكان عليه إذا لم يكن يثق بصدق الإمام أن يبقى محتمِلاً لصدقه لا أن يُظهر تكذيبه له كما هو واضح من لحن حديثه مع الإمام، لذلك أفاد الإمام (ع) بما معناه أنَّ تصديقك لخبر تولِّي السجاد لأمر الحسين (ع) يقتضي إمكانيَّة صدق خبري، وكان المناسب منطقيَّاً وذوقياً عند عدم الوثوق بالصدق المطالبة بإمارة الصدق لا المجابهة بالتكذيب المعبِّر عن العناد، فهو لم يُطالب بالبرهان على الصدق وإنَّما انتقل إلى محورٍ آخر، وذلك ما يُعزِّز أنَّه كان ينكر على الإمام لمجرَّد الإنكار وبدافع العناد، وهذا ما كان الإمام يقصد إظهاره من حال البطائني، وذلك هو ما تحقَّق.
وبما ذكرناه يتبيَّن ظهور الرواية في إقرار الإمام الرضا (ع) بكبرى أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله وبأنَّ الإمام السجاد (ع) هو من ولي أمر الحسين (ع)، وبه يثبت المطلوب وهو صلاحية الرواية لأنْ تكون شاهدًا على دعوى أنَّ من تصدَّى لتجهيز الحسين (ع) ودفنه هو الإمام السجاد (ع).
الإشكال الثاني:
إنَّ من الثابت الذي لا ريب فيه أنَّ الإمام السجاد (ع) كان في الأسر ضمن عائلة الحسين (ع) إبتداءً من مساء يوم العاشر إلى ما يربو على الشهر فكيف تسنَّى له الإفلات من قبضة الأمويين والعودة إلى كربلاء لمواراة والده الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء.
والجواب: إن هذا الإشكال لا يسترعي الكثير من العناء بعد الإيمان بإمامة السجَّاد (ع) وموقعه السامي عند الله تعالى، وقديماً تجلَّت قدرةُ الله تعالى على أيدي أوليائه اللذين اصطفاهم أدلاءَ عليه في خلقه، فليس بمستغربٍ أو مُستوحَش أو يُهيء اللهُ لوليِّه سيِّد الساجدين ما يتمكَّن به من التخلُّص من أسر أعداء الله والوصول إلى كربلاء لمواراة صفيِّه ونجيبه الذي بذل كلَّ ما لديه من أجل أنْ تكون كلمةُ الله هي العليا.
فهو تعالى مَن خلَّص يونس من بطن الحوت وقد كان قد مكث فيه دهراً ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾(5) ولولا أنَّه كان من المسبحين للبث في بطنِه إلى يوم يبعثون.
وهو تعالى مَن هيّأ لجليس نبيِّ الله سليمان ما يتمكَّن به من أنْ يأتي بعرش بلقيس قبل أنْ يقوم سليمانُ من مقامه، وهيأ لآصف بن برخيا أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يرتدَّ لسليمانَ طرفهُ(6)، فلم يكن الأول نبيَّاً ولا كان الآخر نبيَّاً نعم كانا من أولياء الله وخالصة خلقه الذين منحهم من قدرته وأفاض عليهم من جلال عظمته.
فإذا جاز أن يتجلَّى شيءٌ من قدرته تعالى على أيدي مَن سبق من أوليائه فلماذا يمتنع ذلك على من لحق من نجبائه وأصفيائه اللذين ارتضاهم لدينه وجعلهم الذريعةَ إليه والوسيلةَ إلى رضوانه، ولو كنّا بصدد الحديث حول الإمام زين العابدين (ع) لأفضنا في نقل ما تواتر عن الثقاة من عجيب ما كان يجري على يديه من كراماتٍ إلا أنَّ من شاء الوقوف على ذلك فلن يجد عناءً يُذكر.
الإشكال الثالث: إنَّ ثمة روايات أفادت أنَّ النبي الكريم (ص) هو من تصدَّى لدفن الحسين الشهيد (ع)(7).
والجواب: عن ذلك إنَّ هذه الروايات غير منافية لما ذكرناه، إذ من الممكن جداً أنْ يُشارك النبيُّ الكريم، من وراء الغيب في تجهيز سيِّد الشهداء (ع) بل نحن لا نشكُّ في ذلك، وقد نقلنا ما رُوي في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله الصادق (ع) من أنَّ الإمام عليَّ بن الحسين حين يتولَّى شأن أبيه يُعينه على ذلك النبيُّ الكريم (ص) وعليُّ بن أبي طالب والحسنُ بن عليٍّ والملائكةُ اللذين ينزلون في ليلة القدر وفيهم جبرائيل وأنَّه (ع) يراهم من وراء الغيب، لأنَّ الله تعالى يكشفُ عن بصره كما كشف عن بصر مَن كان قبله من الأئمة (ع) حين يتولَّون أمر مَن سبقهم.
وليس ذلك بمُستغرَب إلا عند من يجحدُ بالغيب، فقد ثبت عن الفريقين أنَّ ملائكةً يحضرون في تشييع ومواراة بعض المؤمنين(8)، نعم نحن لا نُدرك حقيقة هذا الحضور وكنهه نظراً لقصورنا إلا أنَّ ذلك لا يمنع من التسليم بالصدق بعد الإذعان بقصور عقولنا عن الإدراك للكثير من الحقائق وبعد أنْ كان المخبِر عنها هو من آمنَّا برسالته التي جاء بها من ظهر الغيب.
وبمجموع ما ذكرناه نكون قد خلصنا إلى هذه النتيجة وهي أنَّ الذي تصدَّى لدفن الحسين (ع) ومَن كان معه من الشهداء هو الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (ع) نعم قد كان أعانه على ذلك ظاهراً رجالٌ من أهل الغاضرية من بني أسد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- اختيار معرفة الرجال -الشيخ الطوسي
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.
5- سورة الأنبياء / 88.
6- ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ سورة النمل / 39-40.
7- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص213، الأمالي -الشيخ الطوسي- ص315، العوالم، الإمام الحسين (ع) -الشيخ عبد الله البحراني- ص507.
8- مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج11 / ص231، تفسير القرطبي -القرطبي- ج15 / ص262، الكامل -عبدالله بن عدي- ج7 / ص265 / ميزان.
الشيخ شفيق جرادي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد مصباح يزدي
حيدر حب الله
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
حبيب المعاتيق
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
الصبر الزينبي والبصيرة الزينبية
معنى آخر للموت
وقف الزّمان
أنواع التّجلّيات
زينب (والمصائب والأحزان) (2)
حقوق أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم (5)
السجَّاد (ع) هو مَن دفن الحسين (ع) (2)
قافلة السبايا في الكوفة بعد كربلاء (2)
زينب (والمصائب والأحزان) (1)
حقوق أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم (4)