في يوم الجمعة الأول من شهر صفر سنة 61 هـ، مع حوالي الضحى وصل ركب الأسارى إلى أطراف دمشق، ولعله في مثل هذا الوقت كان ينشد يزيد شعره المعروف:
لما بدت تلك الحمول وأشرقت، تلك الشموس على ربى جيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح، فقد اقتضيت من النبي ديوني
ولأن الأمر مطلوب فيه حالة احتفالية وعرض انتصار، وذلك اليوم يوم جمعة فقد رتب الأمر حتى من السابق بحيث يكون دخولهم في ذلك اليوم متوافقاً مع اجتماع الناس لصلاة الظهر يوم الجمعة، فهو أفضل مناسبة لهم لإشهار انتصارهم، ولذلك قيل إنه تم إيقاف ركب الأسارى على بوابة دمشق المعروفة بباب توما، إلى أن اجتمع الناس وانتهت صلاتهم حتى يستعرضوا هذا الركب الأسير.
لا نعلم إن كانت تسمية باب الساعات الواردة في بعض النصوص التاريخية المرتبطة بالواقعة الحسينية، هي من ذلك الوقت أو أنها ترتبط بمناسبة إيقاف ركب الأسارى على ذلك الباب وهو باب توما، عدة ساعات لانتظار المتفرجين الخارجين من صلاة الجمعة أو ليست كذلك.
ولكن من الواضح أن استعدادات مهمة كانت قد اتخذتها السلطة الأموية لاستثمار (الانتصار) على الإمام الحسين عليه السلام وتثبيت العرش الأموي وإظهاره مظهر القوة والاقتدار.
وإذا كان ابن زياد في الكوفة قد استثمر ما سبق بالنحو الأنفع له كشخص وكوال لإبراز حزمه وقدرته، فإن من الطبيعي أن يفعل يزيد وأركان حكمه نفس العمل أو أكثر، ولهذا نعتقد أن ركب الأسارى ظل في مشهد الناظرين والمتفرجين من الخارجين من صلاة الجمعة في ذلك اليوم، حتى إذا تم ذلك أخذوا أيضاً في جولة في الشوارع الرئيسية في المدينة (يطاف بهن في الأسواق)، ولم تنته تلك إلا بالتوقف على بوابة قصر يزيد الذي كان قد جمع جمعاً غير عادي في مجلسه لاستقبال واستعراض ركب الأسارى.
ويعتقد أن اللقاء والعرض لم يكن وحيداً، وإنما تكرر في أيام تالية وشهد أحداثاً متعددة، لكن العرض الأول كان يجري بهذا النحو فيما نعتقد في مبالغة من جهة الشرطة المكلفة بالحراسة، وهذا يحصل أحياناً لبيان حرصهم وإخلاصهم في تنفيذ أوامر الحاكم، فإنه تم تقييد النساء والأطفال ومعهم الإمام السجاد علي بن الحسين عليهم السلام بالحبال، لكي يدخلوا على يزيد وهم مقيدون كما ذكرنا، فلما أدخلوا بهذه الحالة سأل الإمام السجاد عليه السلام يزيد بن معاوية: ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وآله لو يرانا ونحن بهذه الحالة؟ وبطبيعة الحال كان السؤال مفاجئاً بل صاعقاً، أدى بيزيد إلى أن يأمر بالحبال فقطعت؟
مناقشات في مجلس يزيد:
كان من الطبيعي أن يقدم يزيد رؤيته فيما حدث و(يفلسف) ما جرى وذلك لأن الاستفادة من الحدث إنما يتم بهذه الصورة، فالحدث يراه الجميع وهو قابل للتفسير والتوجيه بأنحاء مختلفة، لذلك يسعى الظلمة والحاكمون لإعطاء رؤية وفكرة تخدم ما يريدونه، وقد سبق أن رأينا في الكوفة كيف أن ابن زياد خاض مناقشات مع الإمام السجاد ومع العقيلة زينب واستكثر عليهما أن يردا عليه أفكاره، لأنه يعلم أن من المهم عنده أن يعتقد الناس بما يفكر فيه لا بما يقوله مخالفوه.
ونفس الكلام هنا أراده يزيد بن معاوية - الغريب أنهم لا يلتفتون إلى أن منطقهم منطق سقيم ومع ذلك يريدون من الآخرين أن يقبلوه منهم على طريقة ما أريكم إلا ما أرى.
مجلس أو مجالس؟
نعتقد أن الفترة التي كان فيها ركب الأسارى في الشام شهدت انعقاد ثلاثة مجالس على الأقل، كان منهما اثنان فيما نحتمل جمعت بين يزيد بن معاوية وبين أسارى الركب الحسيني؛ أولهما كان في يوم الجمعة بعد صلاة الظهر، في مجلس قصره وسنأتي على ذكر بعض ما دار فيه، وهو المجلس الأصلي الذي شهد المواجهة بدءاً من نقاش تمهيدي، ثم حادثة قرع الرأس الشريف بعود الخيزران من طرف يزيد، وردود الفعل على ذلك من جهة بعض الحضور وبشكل أساس من السيدة العقيلة زينب الكبرى عليها السلام وخطبتها في ذلك.
كما نعتقد أنه تم عقد مجلس آخر ولعله في اليوم التالي وهذا كان على الأكثر في المسجد المعروف بالأموي، نفترض أنه بدأ مع الضحى لينتهي بأذان الظهر، وفيه كانت خطبة الإمام علي بن الحسين عليه السلام، التي تم قطعها كما سيأتي، وانتهى ذلك المجلس بأن صرف ركب الأسارى وأحرزوا في بعض الأبنية التابعة لقصر يزيد والذي كان ملاصقاً للمسجد.
وربما يكون هناك مجلس ثالث وهذا لا نعتقد بحضور النساء فيه، ونحتمل إذا كان بالفعل فهو أشبه بمجلس الاستقبال الرسمي الاعتيادي اليومي حيث يستقبل فيه السلاطين من يأتي من الضيوف أو الزوار، وفي هذا نحتمل أنه كان قد وفد في تلك الفترات إلى دمشق بعض الأحبار (أو رجال الدولة المسيحيين) وأنهم لما عرفوا بما جرى كان منهم اعتراض واحتجاج على تلك الممارسات.
بالطبع لا نمتلك مؤكدات حتمية لما سبق، ولكننا نستطيع الاستفادة من بيئة كل حدث لتشكيل التفاصيل المناسبة لها، فمثلاً إن المجلس الأول كان بعد صلاة الجمعة وخروج الناس من المسجد، فلا بد أن يختلف عن مجلس اليوم الثاني الذي لما وصل إلى وقت نادى بأن يؤذن بالأذان، وأنه بعد ذلك أقيمت الصلاة وتفرق الناس كما ذكرت المصادر التاريخية.
المجلس الأول:
1/ حوار:
مع دخول ركب الأسارى وتقطيع الحبال عنهم، وكما قلنا فإن يزيد ككثير من السلاطين والظالمين لا يكتفي بحصول الحدث من القتل والسبي وإنما بالإضافة إلى ذلك يسعى لكي يعطي للحاضرين (فكرة) تنتهي إلى تخطئة خصمه وتصويب فعله، فكان أن بدأ بالقول كما نقل في مصادر تاريخية بالقول:
بعد أن "أتي بهم حتى أدخلوا على يزيد وعنده يومئذ وجوه أهل الشام، فلما نظر إلى علي بن الحسين رضي الله عنه قال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا علي بن الحسين، فقال: يا علي! إن أباك الحسين قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت، فقال علي بن الحسين: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). فقال يزيد لابنه خالد: أردد عليه يا بني، فلم يدر خالد ماذا يقول فقال يزيد: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)".
ثم مرة أخرى بعد أن عجز خالد ابنه، قال يزيد: هذا (يقصد الحسين) كان يفتخر عليّ ويقول: أبي خير من أب يزيد، وأمي خير من أمه، وجدي خير من جد يزيد، وأنا خير من يزيد! فهذا الذي قتله!! فأما قوله: إن أبي خير من أب يزيد، فقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه! وأما قوله: إن أمي خير من أم يزيد، فلعمري أنه صدق أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله خير من أمي، وأما قوله بأن جدي خير من جد يزيد، فليس أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يقول: إنه خير من محمد صلى الله عليه وآله، وأما قوله: خير مني، فلعله لم يقرأ هذه الآية: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
2/ مواقف بعد ضرب الرأس الشريف:
في خطوة تصعيدية، قام يزيد بأخذ عود خيزران وظل يقرع ثنايا وأسنان رأس أبي عبد الله الحسين عليه السلام، الأمر الذي كان مفاجئاً للجميع من الحاضرين، وفيهم من كان يحسب من أصحاب رسول الله أو تابعيهم بالإضافة إلى الأسرة الكريمة للنبي صلى الله عليه وآله.
وهو ينشد متمثلاً لعبد الله بن الزبعرى، ومضيفاً إليها من عنده:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل
وربما نقل أيضاً عنه تمثله بشعر آخر:
يفلقن هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وبطبيعة الحال فإن هذه الفعلة التي كانت خارج كل المقاييس الأخلاقية والطبيعية، ولّدت ردود فعل معارضة بعضها كان في مستوى الاستهجان والبعض الآخر في مستوى الاحتجاج وثالثها في مستوى المعارضة الصاخبة.
فمن ذلك ما قيل من أن أبا برزة الأسلمي كان موجوداً في المجلس فلما رأى ذلك، اعترض قائلاً: ارفع عصاك عن ثغر طالما رأيت رسول الله يقبله، وبكى وخرج محتجاً ونقل عن غيره أيضاً.
وأما رد الفعل القوي، فقد كان من العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام، حيث أشعل فيها هذا الاعتداء الأثيم جمرة الاحتجاج وخطبت خطبتها القوية في معناها الشديدة في أسلوبها والبليغة في ألفاظها وهي تحتاج إلى شرح خاص قد نعرض إليه فيما بعد لوجود عمق معنوي وأدبي متميز فيها.
ونحن نحتمل أن نهاية خطبة العقيلة زينب وفيها من التحدي ما عجز يزيد عن الرد عليه إلا بكلمات مبهمة، مثل قوله: يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون الموت على النوائح.
بينما كانت الخطبة في أفق غير هذا الأفق حيث أنهت الخطبة بقولها: فكد كيدك واسْعَ سعيك وناصب جهدك فوالله لا يذهب عنك عارها وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
وبهذا تقريباً كان المجلس الأول والرئيس قد انتهى، وبهذه الصورة التي فرضتها العقيلة زينب عليها السلام.
محمود حيدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عادل العلوي
الشيخ فوزي آل سيف
السيد عباس نور الدين
السيد عبد الحسين دستغيب
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
أحمد الرّويعي
السيد محمد حسين الطهراني
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
الأخت.. فكرة أمٍّ ثانية
الإمام السجّاد (ع) بعد عاشوراء
السُؤال في عين كونه جوابًا (3)
سورة الماعون
خلود ثورة الإمام الحسين (ع)
الأسارى في دمشق، وخطبة العقيلة زينب (ع) (1)
قضايا الحياة الكبرى، قضية المرأة نموذجًا
محاضرة حول (الشّخصيّة الموضوعيّة) في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
اسجدوا للّه شكراً
هل نملك إرادة حرة واقعًا؟