من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ فوزي آل سيف
عن الكاتب :
من مواليد سنة «1379 هـ» في تاروت ـ القطيف، درس المرحلة الابتدائية في تاروت وهاجر للدراسة الدينية في الحوزة العلمية بالنجف ـ العراق سنة 1391 هـ. التحق في عام 1394 هـ، بمدرسة الرسول الأعظم ودرس فيها الأصول والفقه وتفسير القرآن والتاريخ الإسلامي والخطابة والأدب، في عام 1400 هـ هاجر إلى الجمهورية الإسلامية في إيران وشارك في إدارة حوزة القائم العلمية في طهران، ودرّس فيها الفقه والأصول والثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وأكمل دراسة المنهج الحوزوي في الفقه والأصول. انتقل لمتابعة دراساته العالية إلى قم في بداية عام 1412 هـ ودرس البحث الخارج، عاد في نهاية عام 1418 هـ إلى وطنه القطيف. صدر له عدد من المؤلفات منها: "من قضايا النهضة الحسينية أسئلة وحوارات، نساء حول أهل البيت، الحياة الشخصية عند أهل البيت، طلب العلم فريضة، رؤى في قضايا الاستبداد والحرية، صفحات من التاريخ السياسي للشيعة" وغير ذلك..

الأسارى في دمشق، وخطبة العقيلة زينب (ع) (3)

نص خطبة السيدة زينب (ع)

 

قال الراوي: فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسول وآله أجمعين، صدق الله سبحانه كذلك يقول (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسراء إن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة وإن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورًا حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

 

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول لله صلى الله عليه وآله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم.

 

لأهلوا واستهلوا فرحًا، ثم قالوا يا يزيد لا تشل... منحنياً على ثنايا أبي عبد الله عليه السلام سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك، وزعمت إنك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ولتودن إنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، اللهم خذ لنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا وأحلل غضبك بمن سفك دمائنا وقتل حماتنا فو الله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله بما تحملت من سفك ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته وحيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم.

 

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحيا عند ربهم يرزقون). وحسبك بالله حاكماً وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً وبجبرائيل ظهيرًا وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيكم شرٌ مكاناً وأضعف جندًا، ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك لكن العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنمًا لتجدنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد ألا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى وعليه المعول فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يرحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادى المنادى ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

فقال يزيد لعنه الله: يا صيحة تحمد من صوائح، ما أهون الموت على النوائح...

 

المجلس الثاني وخطبة السجاد (ع)

 

نحتمل من خلال القرائن التاريخية أنه كان هناك مجلس آخر تم عقده في المسجد المعروف بالأموي وهو الذي يتصل به قصر يزيد وربما يكون في اليوم التالي مباشرة، مع استعدادات مفصلة وحضور أكثر من العامة، بخلاف المجلس السابق الذي كان في القصر حيث لم يتيسر لكل من يريد أن يحضره.

 

ومن خلال ما يتجمع من قصص وأحداث يتبين فيه حتى وجود بعض غير المسلمين ممن صادف وجودهم في تلك الأيام في دمشق أو كونهم زوارًا للسلطة، كما يظهر منها أيضاً أنه كان بإمكان بعض العامة أن يتخاطب مع يزيد في شأن (طلب احدى الأسارى للخدمة) وهكذا.

 

يفترض أنه بعدما اخذ الجميع مواقعهم، لم يتحدث يزيد هنا مباشرة وكأنه اكتفى بما قاله في اليوم الماضي وألجمه ما سمعه فيه، فأمر خطيباً أن يبين وجهة نظر السلطة الأموية من خلال التهجم على أمير المؤمنين علي والإمام الحسين عليهما السلام، وبالطبع مدح يزيد بن معاوية وأبيه وذكرهما بكل جميل!

 

فوقف الإمام السجاد عليه السلام في وجهه وقال: «ويلك، أيها الخاطب! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق؟ فتبوأ مقعدك من النار»، ثم قال: «يا يزيد! ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن للّه رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب»، فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين! ائذن له ليصعد، فلعلّنا نسمع منه شيئًا، فقال لهم: إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا: وما قدر ما يحسن هذا؟! فقال: إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقًّا، ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود. فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم خطب فقال: «أيها الناس أعطينا ستًّا، وفضلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأنّ منا النبي المختار محمداً صلّى اللّه عليه وآله، ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد اللّه وأسد الرسول، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنا سبطا هذه الأمة، وسيدا شباب أهل الجنّة، فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي: أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهوا، أنا ابن من أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلّا اللّه، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر باللّه طرفة عين.

 

أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين، ورسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب للّه من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي اللّه على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر دين اللّه، وولي أمر اللّه، وبستان حكمة اللّه، وعيبة علم اللّه، سمح سخي، بهلول زكي أبطحي رضي مرضي، مقدام همام، صابر صوام، مهذب قوام، شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، مفرق الأحزاب، أربطهم جناناً، وأطبقهم عناناً، وأجرأهم لساناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة طحن الرحى، ويذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز؛ وصاحب الإعجاز؛ وكبش العراق، الإمام بالنص والاستحقاق مكي مدني، أبطحي تهامي، خيفي، عقبي، بدري، أحدي، شجري، مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين، الحسن والحسين، مظهر العجائب، ومفرق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد اللّه الغالب، مطلوب كل طالب، غالب كلّ غالب، ذاك جدي علي بن أبي طالب. أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول.

 

قال: ولم يزل، يقول: «أنا أنا» حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن: أن يؤذن، فقطع عليه الكلام وسكت، فلما قال المؤذن: اللّه أكبر، قال عليّ بن الحسين: «كبرت كبيرًا لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء أكبر من اللّه»، فلما قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، قال علي: «شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي. ومخي وعظمي»، فلما قال: أشهد أنّ محمدًا رسول اللّه، التفت عليّ من أعلى المنبر إلى يزيد، وقال: «يا يزيد! محمد هذا جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت، وإن قلت: إنه جدي، فلم قتلت عترته؟»

 

قال: وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة، فتقدم يزيد وصلى صلاة الظهر. ومن التأمل فيما حدث نشير إلى الأمور التالية:

 

1/ يعتبر هذا المجلس وما جرى فيه بمثابة الضربة القاضية للإعلام الأموي وما كان يستهدفه، فلقد اشتمل هذا المجلس على ما توقعه يزيد وحصل بالفعل من أن السجاد لن ينزل إلا بفضيحته وفضيحة آل أبي سفيان، فلقد فضح الإمام السجاد ذلك الخطيب من أنه إنما قال ما قال طمعاً في المال واشترى سخط الله بما فعل، وحيث تم فضح ذلك تشكل خط ضاغط باتجاه أن يسمعوا الحقيقة من الإمام السجاد عليه السلام، بالرغم من معارضة يزيد وأركانه لذلك، وهذا ملفت للنظر أن يكون الناس الذين استجلبوا ليسمعوا كلام السلطة وآراءها يصرون على أن يسمعوا كلام المعارضين للسلطة وتحديداً الإمام السجاد عليه السلام.

 

2/ مع ارتقاء الإمام السجاد المنبر تحول ذلك المشهد إلى محفل عقائدي لا نظير له، فلم يكتف الإمام عليه السلام بالتعريف السريع والعاجل الذي شهدناه في خطبته المختصرة في الكوفة، وإنما تحول إلى شيء آخر، فقد عرف الناس بشكل مركز بأمور، أولاً: بالأسرة النبوية العلوية وأنها قد اختصها الله بخصائص، وفضلها بسبع ميزات لا تشركها أي أسرة أخرى في المسلمين؛ كون النبي المصطفى، والزهراء، وحمزة سيد الشهداء، والوصي أمير المؤمنين، والطيار جعفر، والسبطين من هذه الأسرة لا سواها.

 

3/ أغرق الإمام السجاد في التعريف بجده أمير المؤمنين علي عليه السلام، نزعاً في نصٍّ قد لا نجد نظيرًا له في النصوص الأخرى من حيث استيعابه وتشعبه، واسترساله. وكأن هذا الموقع الذي كان يشهد على الدوام شتم أمير المؤمنين عليه السلام من زمان معاوية إلى هذه الأيام كان ينتظر مطر هذه الكلمات لتغسل غبار وهباء الكذب الأموي، فإذا بها تنساب من شفتي الإمام السجاد عليه السلام، وهي أشبه بدرس عقائدي مفصل.

 

فبعد أن نسب نفسه إلى جده رسول الله صلى الله عليه وآله في اثنتي عشرة صفة، نسب نفسه إلى أبيه أمير المؤمنين فيما يقارب من تسعين صفة، وهكذا يكون الدرس العقائدي المفصل، كل صفة منها تشير إلى جهة كمال من كمالات أمير المؤمنين عليه السلام.

 

4/ وبالطبع فإن يزيد وهو يدرك تغير الموقف، بأن أصبح سمع الناس جميعاً في لسان الإمام يحتكم فيه كيف يشاء، لم يرَ بُدًّا أن يقطع كلام الإمام فاستفاد من وقت الصلاة الذي كان قد حل، ليأمر المؤذن أن يؤذن وقصده قطع كلام الإمام، وحيث أنصت الإمام مستفيداً من الموقف ومقرراً العقائد الأساسية في التوحيد، ثم النبوة، سائلاً يزيد: محمد هذا جدي أم جدك؟ فإن قلت إنه جدك فقد كفرت وإن قلت جدي فلم قتلت عترته وذريته؟

 

انتهى ذلك المجلس على الأمويين بنحو أسوء مما انتهى عليهم مجلس اليوم الماضي، فإذا كانت السيدة زينب قد مرغت أنف يزيد في التراب في اليوم المنصرم، فلم يعد إلى الحديث بعدها في اليوم التالي، فإن ما حدث في هذا المجلس كان أقسى بكثير مما حصل في المجلس السابق ولذلك نعتقد أنه لم يعد يزيد إلى مثلها فيما تلى من الأيام، وبدأ يفكر في التخلص من هذا الأرق والقلق الذي بات يصنعه له وجود الأسارى في الشام.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد