من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

ضرب النقود في الإسلام (3)

ثالثاً: إن هذه الرواية تقول: إن الإمام الباقر هو الذي أمر عبد الملك بذلك. وإن روح بن زنباغ إنما أشار على عبد الملك به.. وهذا غير معقول: لأن البعض يقول: إن عبد الملك قد ضرب النقود سنة 74ﻫ [1].

 

والبعض الآخر يقول: إنه ضربها في سنة 75ﻫ [2] وفريق ثالث يرى أن ذلك كان في سنة 76ﻫ وقال البلاذري: "عبد الملك بن مروان أول من ضرب الذهب والورق بعد عام الجماعة". [3] وعلى كل حال فإنهم متفقون على أن ضرب عبد الملك للنقود كان ما بين الـ 74و77 وعليه فإننا إذا ما أضفنا إلى ذلك: أن ولادة الباقر(ع) كانت في سنة 57ﻫ. ووفاة والده زين العابدين (ع) كانت سنة 94ﻫ.

 

فإننا سنرى: أن عمر الباقر حين ضرب النقود كان ما بين 17و19 سنة؛ فهو في مقتبل عمره؛ ولم يكن له بعد من الشهرة ما يغطي على شهرة أبيه، ولا من الشخصية ما يضارع شخصيته، ولا كان ذكره قد سار في الآفاق بحيث يغطي على أبيه، إلى حد أن يهمل أمره، وتذهب منزلته لاسيما وأن أباه كان يتمتع باحترام كبير جداً، وشهرة واسعة، فاقت كل ذلك الذي منحه الناس وبالأخص الأمويون لأي من أبنائه، بل وحتى آبائه الطاهرين..

 

فالظاهر: أن صاحب هذه القضية مع عبد الملك هو الإمام زين العابدين بالذات، وليس هو الإمام الباقر(ع).. قال الصعدي: "قال في الانتصار: وأول من ضرب الدراهم في الإسلام عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين من الهجرة، وكان السبب في ذلك: أن القرطاس كان يحمل إلى الروم، وكان يكتب على عنوانه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فشق ذلك على صاحب الروم لما كان كافراً؛ فكتب إلى عبد الملك: إما أن تزيلوا ما تكتبون على القرطاس، أو يأتيكم على الدراهم ما تكرهون. فتحير عبد الملك في الجواب؛ فاستحضر علي بن الحسين زين العابدين؛ فاستشاره في ذلك. فقال: حرم التبايع إلا بما تضربه من الدراهم، فبطل بذلك كيد صاحب الروم. فأمر أن يكتب عليها ﴿قل هو الله أحد﴾ إلى آخر السورة غيظاً للروم". انتهى وفي الشفاء نحو حديث الدراهم[4].

 

وقد صرح بذلك الشهيد رحمه الله في البيان، في باب زكاة النقدين، حيث قال: "والدنانير في الدينار بزنة المثقال، وهو لم يختلف في الإسلام ولا قبله، وفي الدرهم: ما استقر عليه في زمن بني أمية بإشارة زين العابدين الخ..". [5]. وحكى في الوسائل ذلك عنه في الذكرى..

 

كما أن صاحب الجواهر قد صرح في كتاب الزكاة، في مسألة أن عشرة دراهم سبعة مثاقيل: بأن ذلك كان بإشارة زين العابدين عليه السلام... وقال ابن كثير وهو يتحدث عن السجاد: "وقد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق، فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه في أمر السكة، وطراز القراطيس..". [6].

 

ويؤيد ذلك: أن في بعض نسخ المحاسن والمساوئ قوله: "الباقي من أهل بيت النبي". بدل: الباقر من... الخ.. وقوله: إلى موافاته علياً؛ فلما وافاه أخبره الخبر؛ فقال له علي الخ.. "بدل قوله: موافاة محمد بن علي.. وفقال له محمد بن علي الخ.. [7]. لكن باقي ما في الرواية بقي على حاله..

 

وبعد كل الذي قدمناه نقول: إن كون زين العابدين هو المشير على عبد الملك هو الحق الذي لا محيص عنه.. بقي علينا أن ننظر في الأمر الرابع والأخير؛ فنقول: وأما:

 

رابعاً: فلقد ذكرت هذه الرواية: أن عبد الملك قد أمر عامله على المدينة: أن يعطي الباقر!! مئتي ألف درهم لجهازه، وثلاثة مئة ألف درهم لنفقته!!.. فلماذا هذا السخاء العظيم من عبد الملك؟! فهل هو لأجل نفي تهمة البخل عنه، والتي جعلت المؤرخين يعتبرونه أول من بخل، حتى كان يقال له: رشح الحجر؛ لبخله؟! [8]

 

أم أننا يمكن أن نصدق: بأن ذلك أمر طبيعي، تقتضيه الحاجة ولاسيما بملاحظة أن الإمام لابد وأن يصطحب معه جماعة من أصحابه، يحتاجون إلى مثل هذه النفقة ومثل ذلك الجهاز؟!..

 

هل يمكن أن نصدق ذلك، ونحن نرى الشعراء، وغيرهم يسافرون المسافات الطويلة، والتي لا تقل عن هذه المسافة، طمعاً بالألف درهم، فما دون؟!.. وأي قافلة مهما عظمت تحتاج على عشر هذا المبلغ، بل إلى أقل منه بكثير فيه وقت كانت النقود في ذات قيمة عظيمة، والقليل منها يقضي من الحاجات الكثير؟! وإذا كان هذا السخاء غير طبيعي ولا مقبول.. فهل يقصد من إظهاره التدليل على مدى اهتمامه بالإسلام، وغيرته على المسلمين؟!..

 

أم أن المقصود منه مجرد التعظيم التهويل، ليدخل في روع الناس أن عبد الملك هو أول من ضرب النقود الإسلامية حقاً ؟!.. أم إنهم يريدون أن يلفتوا الأنظار إلى حسن سلوك عبد الملك وحقيقة معاملته وإحسانه حتى لألد خصومه، وخصوم دولته.. العلويين؟!!

 

إن ما بأيدينا من الدلائل والشواهد يؤيد هذا الاحتمال الأخير ويدعمه. ولكن وأياً كانت الحقيقة فإن النتيجة التي نستطيع أن نستخلصها بعد جولتنا هذه، والرأي الذي يمكننا أن نطمئن إليه في هذه القضية هو:

 

1- إن عبد الملك ليس هو أول من ضرب النقود الإسلامية وإنما الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

 

2- إن معاوية في محاولته لطمس ذلك وإخفائه قد عاد وضرب النقود على النقش الكسروي..

 

3- إن قضية عبد الملك مع ملك الروم – بعد تطهيرها من تلك الشوائب التي علقت بها عمداً أو عن غير عمد – قد أربكت عبد الملك، فاستشار السجاد، وليس الباقر؛ فأشار عليه بأن يعود إلى ما رسمه علي عليه السلام من ضرب النقود بالسكة الإسلامية، وأن ينقش عليها نفس ما نقشه علي عليه السلام ؛ ففعل عبد الملك ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] فتوح البلدان للبلاذري قسم3 ص574و575 والتراتيب الإدارية ج1 ص421 والعقد المنير ج1 ص49.

[2] مآثر الانافة ج3 ص345 وتاريخ الخلفاء ص218 والبحر الزخار ج3 ص50 عن التخليص عن ابن سعد في الطبقات، والتراتيب ج1 ص417و421 عن الطبقات، وعن المدائني.

[3] فتوح البلدان للبلاذري القسم الثالث ص576.

[4] راجع: جواهر الأخبار والآثار المطبوع بهامش البحر الزخار ج3 ص150.

[5] البيان ط هجرية ص185.

[6] البداية والنهاية ج9 ص104.

[7] العقد المنير ج1 ص72/73.

[8] مآثر الانافة في معالم الخلافة ج3 ص346.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد