من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

إستراتيجية الكوفة في خلافة علي(ع) (2)

ثالثاً: إن المدينة لم تكن شديدة الولاء للشرعية، المتمثلة في علي عليه السلام، وصي الرسول بنص يوم الغدير، بل ربما نجد فيها ما يدل على عكس ذلك، ولاسيما بملاحظة: أن الأمويين، ومحبيهم، والتيميين، والزبيريين ومن ينتمي إليها من أهل الأطماع، وبالتالي كل من وترهم الإسلام على يد علي عليه السلام، ممن لم يكن ينطلق من قاعدة إيمانية ثابتة.. كل هؤلاء كانوا إلى المتمردين من الناكثين والقاسطين أميل منهم إلى الشرعية المتمثلة في علي عليه الصلاة والسلام بل لقد صرح الإمام السجاد (ع) بأنه لم يكن يحبهم في مكة والمدينة ثلاثون رجلاً.. وليراجع كلام الأصمعي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس في وصف البلدان، في كتاب البلدان للهمداني، وأحسن التقاسيم للمقدسي وعيون الأخبار لابن قتيبة وروض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار والعقد الفريد وغير ذلك.. فإنه يظهر بشكل قاطع أن مكة والمدينة لا يمكن الاعتماد عليهما من قبل علي (ع) فإن ولاءهما كان متجهاً إلى غير علي (ع) وأهل البيت..

 

وإذن.. فمعنى الاعتماد على المدينة كقاعدة للخلافة، وعاصمة لها، هو أن تكو الأسرار العسكرية، مواقع الضعف، ومواقع القوة متوفرة لدى الجهة المناوئة، كما وأن الخلافة الحقة سوف تكون معرضة للتمزق من الداخل، وللأعمال الخيانية لصالح الناكثين والقاسطين، وذلك لوجود أعوانهم ومحبيهم بين ظهراني السلطة الحاكمة، التي يستحيل أن تقدم على أي إجراء، ضد أي شخص، ما دام ذلك الشخص لم يثبت أي اتهام ضده، أي لأنها لا ترضى بالعقاب قبل الجناية، وتعتبر أن كل متهم بريء، حتى تثبت إدانته بالطرق الشرعية..

 

ويذكرنا هذا الجو الذي يواجهه الإمام علي عليه السلام بما كان يتعرض له النبي (ص) في حربه مع المشركين من دسائس اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة، مع فارق آخر، يزيد من حراجة الموقف بالنسبة لعلي (ع)، وهو أن اليهود كانوا عدواً ظاهراً معروفاً لدى المسلمين، عدو له نمط حياة خاص به متميز عن المسلمين، وفي معزل عنهم.

 

أما هؤلاء الذين كانوا يهددون أمن الدولة من الداخل في حكم علي عليه السلام، فقد كانوا يعيشون بين المسلمين، ويطلعون على دقائق أحوالهم، وخفايا أمورهم، وكثيراًَ ما كان يصعب تميزهم ومعرفتهم بأعيانهم وأشخاصهم.. نعم.. تكون حالته معهم شبيهة بحالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين.

 

رابعاً: إن الجيل الجديد في المدينة لم يكن قد اعتاد على الحياة الصعبة التي تتطلبها الحروب الطاحنة التي خاضها علي (ع)، لأن شباب المدينة كانوا قد اعتادوا حياة الرخاء والدعة، لأنهم صاروا يعيشون على العطاءات السخية التي كان يغدقها عليهم الخلفاء الذين سبقوا علياً عليه السلام.. حتى أصبح من الصعب عليهم التخلص من أجواء اللذة التي يعيشونها ثم التضحية بأنفسهم، والتعرض للمصاعب والمشاق التي تتطلبها الحروب..

 

وخامساً: لقد كان الإسلام جديداً على العراق وكانت العادات القبلية والجاهلية لا تزال تتحكم في روابطه وعلاقاته الاجتماعية في داخله وخارجه.. وكانت الحروب فيه محكومة لزعماء القبائل عموماً، لا للإيمان والعقيدة وكانت المدينة أبعد عن ذلك ولو بشكل محدود، فكان إغواء أهل العراق من قبل معاوية أقرب احتمالاً وأسهل منالاً وإذا صار العراق مع معاوية، فإن وضع المدينة العسكري والاقتصادي سوف يصير حرجاً جداً.. ولهذا فلابد من تدارك الأمر وحفظ العراق أولاً، ثم استغلال روح التنافس التي كانت قائمة بين القطرين العراق والشام وحتى الروح القبلية، وتوظيفها في صالح الدين والأمة بدلاً من أن يستغلها معاوية في غير هذا السبيل..

 

وهكذا.. نجد أن المدينة لا تستطيع في هذه الظروف بالذات أن تكون عاصمة للخلافة، ومنطلقاً لتحركاتها بحرية، وثقة بهذا الشكل المكثف والواسع.. نعم.. هي كانت الموقع المناسب لمضايقة مكة اقتصادياً وسياسياً، وحتى عسكرياً أيضاً، حينما كان ثمة حاجة إلى ذلك في بدء انتشار الإسلام، في زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم..

 

بل إننا نلاحظ: إن كثيراً من العوامل التي دفعت النبي (ص) إلى الهجرة إلى المدينة، هي نفسها كانت السبب في ترك علي عليه السلام المدينة إلى الكوفة، ولهذا البحث مجال آخر..

 

أما الكوفة:

 

فقد كانت في ذلك على الضد من المدينة، فهي بالإضافة إلى قربها إلى الشام والبصرة، وإلى أنها تقع في قلب الدولة الإسلامية، وفي نقطة الوسط بالنسبة إلى كثير من المناطق التي سوف تشهد نشاطاً واسعاً على مستوى الدولة وليتقرر من ثم مصير الأمة حاضراً ومستقبلاً بشكل عام.. إنها بالإضافة إلى ذلك:

 

1- كانت تملك الطاقات البشرية، أو على الأقل تستطيع أن تؤمن الكيمة الكافية القادرة على مواجهة أي تحدٍ مهما كان كبيراً.. ثم تمده بما يحتاج إليه باستمرار لو ظهر ثمة ما يبرر ذلك، لتوسطها، ولقربها من البلاد ذات الكثافة السكانية..

 

2- وهي أيضاً قادرة اقتصادياً على التموين المستمر للجيوش التي سوف تواجه الحرب، لما تملكه هي والمناطق القريبة إليها من ثروات زراعية متمثلة بالسواد الذي كان يحاذي الفرات، ثم تمكنها من الاتصال السريع بمناطق الثروات إن اقتضت الحاجة إلى ذلك. هذا عدا عن موقعها التجاري في المنطقة سواء بالنسبة إلى الفرس أو إلى العرب على حد سواء.

 

3- ثم هناك قرب العراق من الشام بالنسبة إلى الحجاز..

 

وقد جمع علي عليه السلام الأسباب الثلاثة المتقدمة، في جوابه لأبي أيوب رحمه الله تعالى، حيث قال له عليه السلام: "صدقت يا أبا أيوب، ولكن الرجال والأموال بالعراق، وأهل الشام لهم وثبة أحب أن أكون قريباً منهم الخ..".

 

وقال عليه السلام حينما نصحه ابن عباس بأن يولي طلحة والزبير الكوفة والبصرة: "ويحك، إن العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان".

 

وقال المغيرة بن شعبة لأمير المؤمنين عليه السلام، بعد أن عرض عليه أموراً: "فإن أبيت فاخرج من هذه البلاد، فإنها ليست ببلاد كراعٍ وسلاح".

 

وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: قد خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة. قال ليس بشيء، خرج بأرض ليس بها حلقة ولا كراع قال: "قد خرج إبراهيم بالبصرة قال: قد خرج بأرض لو شاء أن يقيم بها سنة يبايعه كل يوم ألف رجل ويضرب له فيها كل رجل ألف بسيف لا يعلم به احد يمكنه ذلك".

 

4- هذا.. وقد تقدم أن العراقيين كانت لديهم القابلية للإغواء من قبل معاوية ثم تأليبهم على أمير المؤمنين عليه السلام.. وذلك بملاحظة ظروف معينة عاشها ويعيشها العراق نفسياً واجتماعياً وفكرياً وغير ذلك.. وقد تحدثنا عن بعض ذلك في كتاب لنا حول الخوارج، وكتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السلام في عهد الرسول والخلفاء الثلاثة بعده.

 

5- ثم أن الأخطبوط الأموي، والتيمي والزبيري، وغيرهم من طلاب اللبانات، ومن وترهم الإسلام على يد علي عليه السلام – هذا الأخطبوط – كان أقل قدرة على التحرك والمناورة فيها..

 

6- ثم إنه م لم يكونوا قد تعودوا على لذائذ الحياة وزبارجها وبهارجها، بملاحظة حياتهم الحربية على مر الزمن، فكان يسهل عليهم التضحية وخوض غمار الحروب ومكابدة شظف العيش وتحمل الصعاب.

 

بل إن العراق كان أفضل من الشام من حيث الأموال والرجال فقد قال نسير بن ثور العجلي لخالد بن الوليد: "ليس الشام عوضاً من العراق ساعة قط لأن العراق اكثر من الشام حنطة وشعيراً وديباجاً وحريراً وفضة وذهباً وقراً ونسباً وما الشام كلها إلى كجانب من جوانب العراق. فقال له خالد صدقت يا نسير، إن العراق لعلى ما تقول".

 

وهكذا يتضح أن الإمام علياً عليه السلام وصي الرسول (ص) الذي نصبه قائداً للأمة في يوم الغدير، لم يتخذ الكوفة عاصمة لخلافته إلا لاعتبارات استراتيجية وعسكرية فرضت عليه ذلك.. ولم يكن ذلك إجراء عفوياً مرتجلاً، كما قد يتخيل بعض من لم يمعن النظر في مواقفه عليه السلام، ويحاكم الظروف التي كانت قائمة آنذاك بدقة وموضوعية وتجرد.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد