من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

فإن غدا بولده وأهله فاحذَروا مباهلته

 

الشيخ جعفر السبحاني
تقع «نجران» بِقُراها السبعين التابعة لها، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الإسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلُها الوثنية لأسباب معينّة واعتنقوا المسيحية، من بين مناطق الحجاز.
وقد كتب رسولُ الإسلام كتاباً إلى أسقف نجران «أبو حارثة» يدعو أهلها فيه إلى الإسلام، يوم كتب كتباً إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وهذا مضمون هذا الكتاب:
«بِسم إله إبراهيم وإسحاق ويَعقوب من مُحَّمد رسول الله إلى أسقُف نَجران وأهل نَجران إن أسلَمتُم فإنّي أحمَدُ إليكُم الله إله إبراهيم وَإسحاق ويعقوب، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعُوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإنْ أبيتُم فالجزية، فإن أبيتُم فقد آذنتكم بحربٍ، والسلام».
قدم سفير رسول الله صلّى الله عليه وآله نجران، وسلّم كتابه المبارك إلى أسقف نجران، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقّة متناهية، ثمّ شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتّخاذ القرار، مكوَّنةً من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية، وكان أحدُ أعضاء هذه المجموعة «شرحبيل»، الذي عُرف بعقله ونُبله، وتدبيره وحكمته، فقال في معرض الإجابة على استشارة الأسقف إيّاه: قد علمتَ ما وعَد الله إبراهيم في ذرّية إسماعيل من النبوّة، فما يؤمِنُك أن يكون هذا الرجلُ؟ ليس لي في النبوّة رأي، لو كان أمر من أمور الدنيا أشرتُ عليك فيه وجَهدتُ لك.
فقرّر المتشاورون أن يبعثوا وفداً إلى المدينة للتباحث مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، ودراسة دلائل نبوّته، فاختير لهذه المهمّة ستّون شخصاً من أعلم أهل نجران وأعقلهم، وكان على رأسهم ثلاثة أشخاص من أساقفتهم هم:
1-    «أبو حارثة بن علقمة» أسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.
2-    «عبد المسيح» رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه، وتدبيره.
3-    «الأيهم» وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران.
قدمَ هذا الوفد المسيحيُّ المدينة، ودخلُوا المسجد على رسول الله صلّى الله عليه وآله".." فسلّموا عليه فرد عليهم السَّلام، واحترمهم، وقبلَ بعض هداياهم التي أهدوها إليه، صلّى الله عليه وآله، ثمّ إنّ الوفد قبل أن يبدأوا مفاوضاتهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله، قالوا إن وقت صلاتهم قد حان واستأذنوه في أدائها، فأراد الناسُ منعهم، ولكنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أذن لهم، وقال للمسلمين: دعوهم. فاستقبلوا المشرق، فصلّوا صلاتهم.
وبذلك أعطى النبيّ صلّى الله عليه وآله درساً في التسامح الديني، يدفع افتراء أعداء الإسلام على هذا الدين.
مفاوضاتُ وَفد نجران مع النبيّ صلّى الله عليه وآله
عرض رسول الله صلّى الله عليه وآله الإسلام على وفد نجران وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا وقالوا: قد كنّا مُسلمين قبلك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: كَذِبتُم، يمنعكم من الإسلام ثلاثُ: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحمَ الخنزير، وزعمُكُم أنّ لله ولداً.
فقالوا: المسيح هو الله لأنّه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلّها، وخلَق من الطين طيراً.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: هو عبد الله وكلِمته ألقاها إلى مريم.
فقال أحدُهم: المسيح ابن الله لأنّه لا أبَ له.

فسكتَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله عنهم، فنزل الوحيُ بقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ..﴾ آل عمران:59.
فقال وفد نجران: إنّا لا نزدادُ منكَ في أمر صاحبنا إلّا تبايُناً، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك، فهلمَّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحقّ، فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
فأنزلَ الله عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول الله صلّى الله عليه وآله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين﴾ آل عمران:61.
فدعاهُم إلى المباهلة، فقبلوا، واتّفق الطرفان على أن يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

 

خروجُ النبيّ للمباهلة
تُعتبر قصة مباهلة رسول الله صلّى الله عليه وآله مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة والجميلة، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرّخين في رواية تفاصيلها، وتحليلها، إلّا أنَّ ثلة كبيرة، مِن العلماء كالزمخشري في (الكشّاف)، والإمام الفخر الرازي في (تفسيره)، وابن الأثير في (الكامل)، أعطوا حقّ الكلام في هذا المجال، وها نحن ننقل هنا نصَّ ما كتبَه الزمخشريُ في هذا المجال:
«حان وقت المباهلة... وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله، ووفد نجران قد اتّفقا على أن يُجريا المباهلة خارج المدينة، في الصحراء... فاختار رسول الله صلّى الله عليه وآله من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط، وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم، وهؤلاء الأربعة لم يكونوا سوى عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام، وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، والحسن والحسين عليهما السلام، لأنّه لم يكن بين المسلمين من هُوَ أطهر من هؤلاء نفوساً، ولا أقوى وأعمق إيماناً.
طوى رسولُ الله صلّى الله عليه وآله المسافة بين منزله، وبين المنطقة التي تقرّر التباهلُ فيها في هيئة خاصة مثيرة، فقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفَه وعليٌّ خلفَها، وهو يقول: (إذا دعوتُ فأمِّنوا).
كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض - قبل أن يغدو رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى المباهلة: اُنظروا محمَّداً في غد، فإن غدا بولده وأهله فاحذَروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنّه ليس على شيء. وهم يقصدون أنّ النبيّ إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفاً بأبّهة مادية، وقوّة ظاهرية، تحفُّ به قادة جيشه وجنوده فذلك دليل على عدم صدقه، وإذا أتى بوُلده وأبنائه بعيداً عن أيّة مظاهر مادية، وتوجّه إلى الله بهم، وتضرّع إلى جنابه كما يفعل الأنبياء، دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزّته، وأفلاذ كبده، وأحبَّ الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه.
وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الأمور، إذ طلع رسولُ الله صلّى الله عليه وآله والأغصانُ الأربعة من شجرته المباركة، بوجوهٍ روحانية نيّرة، فأخذ ينظر بعضُهم إلى بعض بتعجّبٍ ودهشة، كيف خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله بابنته الوحيدة، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة، فأدركوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، واثق من نفسه ودعوته وثوقاً عميقاً، إذ إنّ المتردّد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه وأعزّته، ويعرّضهم للبلاء السماوي.
ولهذا قال أسقف نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وُجُوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيٌّ إلى يوم القيامة.


انصراف وَفد نجران عن المباهلة
لمّا رأى وفد نجران هذا الأمر (وهو خروج النبيّ بأحبَّته وأعزّته)، وسمعوا ما قاله أسقفُ نجران، تشاوروا فيما بينهم ثمّ اتفقوا على عدم مباهلة النبيّ صلّى الله عليه وآله، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبيّ كلّ سنة، لتقوم الحكومة الإسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم، فقبل النبيّ صلّى الله عليه وآله بذلك، وتقرَّر أن يتمتّع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظلّ الحكومة الإسلامية، لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنوياً، ثمّ قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: (أما والَّذي نفسي بيده، لقد تَدلّى العذابُ على أهل نجران، ولو لاعَنُوني لَمُسِخُوا قردة وخنازير، ولأُضرم الواديُ عليهم ناراً، ولاستأصل اللهُ تعالى نجران وأهله)».
ثمّ يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام: «وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السَّلام، وفيه برهان على صحّة نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وآله، لأنّه لم يروِ أحدٌ من موافق ولا مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك».

أكبر فضيلة
تعتبر واقعة المباهلة وما نزلَ فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مرّ التاريخ. لأنّ ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مكانة ومقام مَن باهل بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله، والذين يتّخذهم الشيعة قادةً لهم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد