من التاريخ

الامام علي (عليه السلام) والخلفاء

 

الشيخ محمد رضا المظفر
أما وقد تركنا الإمام يغضي عن حقه ويقرر بالأخير خطة الصبر على ما فيها من قذى وشجى فماذا تراه يتخذ من خطة في سياسته وسلوكه مع الخلفاء: أيستسلم فيسرع إلى بيعتهم كسائر الناس ويعمل لهم كما يعمل باقي المسلمين أم يسلك بقدر ما تسمح به الضرورة وتقتضيه المصلحة للدين ؟
قد أبى بعض المؤرخين من القدماء والمحدثين إلا أن يصور الإمام مسالماً إلى أبعد حدود المسالمة، فيسرع إلى البيعة عن طيبة خاطر ورضى بمن نصب لها، ولكن البحث الصحيح يأبى علينا أن نسلم بهذا التسرع في النقل أو الحكم :
فقد ثبت تأريخيًّا أن عليًّا لم يبايع أبا بكر إلا بعد موت فاطمة بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وفي تقدير ابن الأثير في تاريخه والبخاري ومسلم في صحيحهما وغيرهم أنه ستة أشهر ، وفي كل هذه المدة هو جليس بيته لم يشترك في جماعة ولا جمعة ولا أمر ولا نهي ولم يسمع له صوت في حروب الردة وغيرها . وأكثر من ذلك كان يطرق أبواب الأنصار وأهل السوابق ليلاً حاملاً معه فاطمة والحسنين يدعوهم إلى نفسه ويذكرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا ما جعله معاوية من ذنوبه في كتابه، ثم إنه كان يقرعهم بالحجة وينير لهم طريق المحجة ذلك قوله المتقدم: " فلما قرعته بالحجة ". وهل يظن الظان أنه كان يحاول في هذا العمل أن يتحولوا في البيعة وأن يتركوا ما أبرموه وهو الذي أسدل دونها ثوباً وطوى عنها كشحاً ورأى الصبر على ذلك أحجى وهو الذي يدعوه العباس وأبو سفيان إلى البيعة فيأبى؟ إن هذا الإباء وذاك الصبر لا يجتمعان مع تلكم المحاولة والدعوة إلى نفسه ما لم يكن يرمي الإمام من وراء ذلك إلى غرض أسمى مما يظن، إنه كان يقيم الحجة في عمله على أولئك الناس ويفهمهم خطأهم فيما ارتكبوا وتنكبهم عن الحق فيما أسرعوا وإلى ذلك يشير فيما قال: " اللهم أنت تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شئ من فضول الطعام ولكن لنرد المعالم في دينك ونظر الصلاح في بلادك ".
ويؤخذ من طيات التأريخ أنه لم تأخذه هوادة في الدعاية والدعوة إلى مبدئه إظهارا لحقه وإقامة للحجة على سواه، فلا ينكر التأريخ اجتماع أصحابه عنده طيلة أيام انعزاله، فيعتبره الطرف الآخر كمؤامرة يحاول إبطالها خشية توسعها، فيرسل من يفرق القوم المجتمعين فيجتمعون.


ولا ينكر التأريخ أيضاً تطوافه على الأنصار وأهل السوابق. ولا ينكر عدم اشتراكه في جمعة ولا جماعة، وهو أحرص على الشعائر الدينية والواجبات الإلهية من أن يجرأ مجترئ على اتهامه بالمسامحة فيها.
وهذه المقاطعة وما إليها إعلان صريح برأيه فيما عليه القوم ولذا نرى الخليفة أبا بكر يتذمر من موقف الإمام فعرض فيه من خطبة: " يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي إلا أني لو أشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت. إني ساكت ما تركت ". وفي هذا تخوف مما يظن أنه سيقع وتهديد بإذاعة أمر مكتوم.
ما أدري - ولا أظن أحد يدري اليوم - أي شئ هذا الأمر الذي يهدد الخليفة بإفشائه، والظنون تذهب ولا تقف على شئ معين! وزبدة المخاض: إنا نفهم من كل ذلك أن خطة الإمام في حياة فاطمة (عليها السلام) كانت المقاطعة والدعوة إلى مبدئه وأن يقعد حجزة الضنين - على تعبير فاطمة (عليها السلام) نفسها - معتزاً بوجودها، وقد جاهدت معه في هذا المضمار جهاداً له الأثر فيما بعد في تركيز مقام الإمام في ذهنية المجتمع الإسلامي. ولا ننسى خطبتها البليغة التي يرن صداها إلى اليوم.
ولذا نراه (عليه السلام) بعد وفاتها يبدل خطته، فبايع، ويبايع معه أهل بيته وأصحابه، ويدخل فيما يدخل فيه القوم. ولكن إلى حد محدود بقدر ما تحكم به الضرورة الدينية للاحتفاظ بالجامعة الإسلامية.
لنسمعه (عليها السلام) يحدثنا هو عن تبديل خطته في كتابه إلى أهل مصر: " فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم. . " .


ولم تكن نصرته للإسلام وأهل إلا بسكوته عن حقه ومتابعته للقوم، ونصيحته لهم في مواقع النصح، وإلا فلم يشترك معهم في طعنة رمح ولا ضربة سيف في جميع المواقف إلى يوم بويع بالخلافة.
وماذا يظن الظان في من جاهد وجالد في سبيل الإسلام عشرين عاماً، وفي كل هذه المدة كان سيفه يقطر من دماء المشركين، ولم تثر حرب إلا وهو ابن بجدتها، وحامل لوائها، ومقطر أبطالها والمقذوف في لهواتها؟
ماذا يظن الظان فيه عندما يجلس جلس البيت عن هذا الدين الذي قام بسيفه، وقد تألبت العرب عليه واشرأبت أعناق النفاق؟
والجهاد فرض من فروض الإسلام، أكان ذلك زهداً في الجهاد وتواكلاً عن الواجب، أم ماذا؟

أهناك غير ما نقول من رأيه في المقاطعة إلا ما تدعو إليها ضرورة المحافظة على الجامعة. وقد يقول القائل: إن الخلفاء هم الذين لم يدعوه إلى الدخول معهم في الحروب والاشتراك في الحكم لمصلحة يرونها، وما كان يجب عليه أن يقدم نفسه متبرعاً، كما لم يدع إلى ذلك جميع الهاشميين، ولم يسمع أن هاشمياً اشترك قائداً في حرب أو حكم في عهد الخلفاء الثلاثة. ويشهد لذلك المحاورة ( 1 ) بين الخليفة عمر بن الخطاب وابن عباس حينما يدعوه إلى العمل في حمص ، فيقل لابن عباس : " وفي نفسي شئ لم أره منك وأعياني ذلك " ثم يصرح بذلك الشئ : " إني خشيت أن يأتي علي الذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلم إلينا ولا هلم إليكم دون غيركم أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل الناس وترككم " .
فيقول ابن عباس: فلم نراه فعل ذلك؟ فقال عمر: والله ما أدري أضن بكم عن العمل، فأهل ذلك أنتم، أم أخشى أن تبايعوا بمنزلتكم منه، فيقع العقاب ولا بد من عتاب؟ وعندئذ يمتنع ابن عباس عن قبول العمل ويقول: إن أعمل لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينيك.


أليست هذه المحاورة شاهدة على أن الخلفاء هم الذين كانوا يمتنعون عن استعمال بني هاشم خوف أن يستغلوا مناصبهم للدعوة إلى أنفسهم؟ وللمجيب أن يجيب، فيقول: إن امتناع الخلفاء عن استعمال علي (عليه السلام) وبني هاشم - إن صح - فهو دليل آخر على سيرة الإمام معهم، واستعماله خطة يخشون معها أن يأخذ وقومه ناصية الأمر إن تولوا عملاً من الأعمال. على إنا لا نعدم شاهداً على أن عليًّا (عليه السلام) هو الذي كان يمتنع عن قبول أعمالهم، فلنستمع إلى الحديث الذي جرى بين الخليفتين عمر وعثمان. يشير عثمان على عمر: " ابعث رجلاً - أي لحرب فارس - له تجربة بالحرب ومضر بها . عمر : من هو ؟ عثمان : علي بن أبي طالب ! عمر: فالقه وكلمه وذاكره ذلك ، فهل تراه مسرعاً إليه ؟ فيخرج عثمان . ويلقى عليًّا (عليه السلام)، فيذاكره فيأبى علي (عليه السلام) ذلك ويكرهه " . تأمل استفهام عمر وشكه في قبول علي (عليه السلام) ، ثم امتناع علي وكراهته للأمر ! وما نستنتج من ذلك ؟
من هذا وأمثاله نعرف ماذا كان علي عليه السلام يتبع في سيرته مع القوم ، وما كان يجري عليه في معاملته معهم ، حتى كان يخفت صوته في جميع الحروب والمواقف ، وكأنه ليس من المسلمين أو ليس موجوداً بينهم ، وهو منهم في الرعيل الأول ، اللهم إلا صوته إذا استشير ونبراس علمه إذا استفتي ، حتى اشتهر عن عمر كلمته " لولا علي لهلك عمر " أو " لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن " . وتتبع استشاراته وأحكامه في كثير من الوقائع .
_________
(1) راجع مروج الذهب ( 1 : 427 ) .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد