من التاريخ

أم البنين وارثة الزهراء عليهما السلام (2)

 

الشيخ محمد العبيدان
صفات الزوجة الصالحة:

ولا تنحصر الاستفادة من النص المذكور في خصوص بيان المكانة السامية لوارثة الزهراء(ع)، بل قد وافق العديد من النصوص الشريفة الصادرة عن النبي الأكرم محمد(ص) بالإشارة إلى الصفات التي يحسن بكل من أراد الإقدام على الزواج أن يطلبها في من يقترن بها، مضافاً إلى عرض الأسلوب الأمثل في كيفية انتخاب الزوجة، وذلك بملاحظة ما تملكه من مقومات وصفات، مثل: العفة والطهارة.
ومنها: أن تكون عزيزة ذات مكانة في وسط أهلها وذويها، وذات احترام وتقدير بينهم، وأن لها كلمة مسموعة.
ومنها: أن تكون ذليلة مع زوجها،خاضعة إليه، مستجيبة لأمره، تستمع لقوله، وتطيع أوامره.
ومنها: أن تكون باذلة نفسها لزوجها غير ممتنعة عنه، وتحصن نفسها وتصونها عن كل أحد سواه.
ولقد اشتملت النصوص على عرض بعض صور التشبيه للمرأة الصالحة وبيان ندرة وجودها، فعبرت عنها مرة بأنها كالغراب الأعسر، وأخرى بأنها كالشامة في جلد الثور الأسود، وهكذا.
وفي مقابل ذلك تضمنت النصوص أيضاً التنفير من الاقتران بمجموعة من النساء على أساس ما لهن من صفات، فذكرت مثلاً المرأة الحسناء في منبت السوء.


تنبيه مهم:
ثم إنه قد يركز على البعد الوراثي في الأولاد، فإنه يستفاد من النص المذكور وجود مدخلية له في ذلك، إذ يلحظ أن الإمام(ع) قد ذكر عنصر العائلة. وما ذكر وإن كان في محله، لكن لا ينبغي أن يأخذ على نحو العلة التامة، بل الظاهر أن أقصى ما يتصور كونه بنحو الاقتضاء، وهذا يعني أنه متى توفرت العوامل الصحيحة للتربية الناجحة كان ذلك موجباً لصلاح الولد، وعلى العكس تماماً لو لم تتوفر العوامل الصحيحة للتربية السليمة فإنه سيكون مصيره الانحراف وإن كان خؤولته من أهل الصلاح والإيمان. ويضاف إلى ذلك أن القيم والأخلاق، بعضها وراثي، وبعضها الآخر اكتسابي يتحصل عليه الطفل نتيجة التربية، فلا تغفل.
ويساعد على ما ذكرنا، بل يدل عليه النصوص التي تضمنت الدعوة إلى الاقتران بالمرأة الصالحة لصلاحها، من دون نظر إلى أسرتها وذويها، ولو قيل بأن مثل هذا الإطلاق مقيد بما ورد من أن الخال أحد الأبوين، فإنه يندفع بملاحظة النصوص التي تضمنت تزويج من كان مرضي الدين والخلق، إذ لا ريب في أن له أخوالاً قد لا يكونوا صالحين، فضلاً عن أنه لم نجد من التـزم من فقهائنا بأن زواج الفاسق من الفاسقة من الأمور التعبدية، أو التكوينية، فلا تغفل. ويعجبني أن أحيل القارئ العزيز على ما ذكره علماء التفسير حول قوله تعالى:- ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)[5].


في بيت أمير المؤمنين:
لم ينقل لنا التأريخ كيف تمت مراسيم الزفاف، وكيف زفت العروس إلى بيت زوجها، وإن كان المتصور من حال علي(ع) سلطان الدنيا، أبو الفقراء أن لا يخرج زواجه في بساطته وتواضعه عن زواج أي واحد منهم.
ودخلت أم البنين(ع) بيت أمير المؤمنين(ع)، لتكون سيدة ذلك البيت، ووارثة للزهراء(ع)، إذ أصبحت هذه الزوجة الرابعة في ما بعد، هي الرقم الأصعب بين زوجات الإمام(ع)، وذات المكانة الخاصة، سواء عند أمير المؤمنين(ع)، أم عند أبناء مولاتي الزهراء(ع).
وكما لم ينقل لنا المؤرخون شيئاً عن حيثيات الزفاف المبارك، لم ينقلوا شيئاً أيضاً عن حياتها(ع) في بيت أمير المؤمنين(ع)، عدا أمرين:
الأول: طلبها من الإمام(ع) أن يستبدل أسمها، لما كانت تراه من ألم وحسرة في عيني الإمامين الهمامين الحسنين(ع)، وبقية أولاد الزهراء(ع) عندما تنادى بفاطمة، لأنهم يتذكرون أمهم(ع).
وقد عرفت منا التحفظ على مثل هذا، ذلك أن المقدار الزمني، والعمر الذي بلغه الإمامان الهمامان وأختهما الحوراء زينب(ع) لا يساعد على استحسان مثل هذا، فضلاً عن القبول به.
الثاني: أنها قامت بتمريض الإمامين الحسنين(ع)حيث كانا مريضين يوم زفت إلى أمير المؤمنين(ع)، فأخذت تسهر معهما وتمرضهما، وتقابلهما بالبشاشة، ولطيف الكلام، كالأم الحنون الرءوم الشفوق.
ويشتد موجب التأمل في هذا أكثر من سابقه، إذ قد عرفت في ما تقدم أنها(ع) يوم زفت للإمام(ع) لم يكن عمر الحسنين(ع) يقل عن عشرين عاماً، وهذا يساعد على كونهما متأهلين، فلا يتصور أن تسهر هي على تمريضهما، ولكل واحد منهما زوجة، فتأمل جيداً.
وعلى أي حال، فقد عاشت أم البنين(ع) مع أمير المؤمنين(ع) قريباً من خمسة عشر إلى ستة عشر سنة، واكبت خلالها الأحداث التي عايشها(ع)، وكانت إلى جانبه يوم قام بالخلافة الظاهرية، وانتقلت معه إلى الكوفة التي اتخذها عاصمة له، ولم تكن بعيدة عنه(ع) وهو يخوض حروبه الثلاثة في الجمل وصفين والنهران.

وبقيت معه إلى حين وقوعه في محراب صلاته شهيداً، ومن الغريب جداً أن المصادر التاريخية لم تنقل لنا شيئاً عن إحدى زوجاته(ع) خلال فترة خلافته الظاهرية، ومدة إقامته في الكوفة، مع أنه من المستبعد جداً أن لا يكن قد انتقلن معه إليها، خصوصاً وأن التأريخ لم ينقل إلينا أنه(ع) كان يخرج منها مثلاً إلى المدينة المنورة، بل المعروف أن خروجه من الكوفة كان منحصراً بلحاظ ما خاضه(ع) من الحروب، فلاحظ.
وكما لم تنقل المصادر التاريخية شيئاً عن وجودهن معه في الكوفة، لا نجد لهن ذكراً أيضاً حال احتضار الإمام(ع)، فمع أنه قد نقلت وصاياه، وما تضمنته من إخبارات، إلا أنها لم تتضمن الحديث عن زوجاته، ولهذا لا نجد وجوداً للسيدة أم البنين(ع) خلال هذه الأحداث، وكيف أنها قد استقبلت أمير المؤمنين(ع) ساعة جيء به من المسجد، وهكذا.
والذي يهون الخطب، أن التاريخ لما كان مكتوباً بأقلام مأجورة ما كانت لترضى بعلي، ولا عن علي(ع) فمن الطبيعي جداً أن لا تنقل شيئاً من سيرته العطرة، ولا تحفظ شيئاً من تاريخه، بل لو تسنى لهم أن يحذفوا ما كتب، لم يتورعوا عن ذلك. كما لا تنقل شيئاً من سيرة من كان معه وحوله.
نعم من المطمئن به قربها من أمير المؤمنين(ع) كما يستفاد ذلك من تاريخ ولادة آخر أخوة أبي الفضل(ع) وهو الذي كان له يوم الطف عشرين عاماً تقريباً، فتأمل.
 

العودة إلى المدينة:
ولما انتقل أمير المؤمنين(ع) إلى جوار ربه، وقرر الإمام الحسن(ع) العودة إلى أرض طيبة الطيبة، مدينة النبي(ص) كانت أم البنين(ع) واحدة من النساء اللاتي عدن معه، وبقيت في كنف الإمام الحسن(ع) ورعايته مدة إمامته المقدرة بعشر سنين تقريباً، وصارت في رعاية الإمام الحسين(ع) بعد شهادة الإمام الزكي(ع)، وكما افتقرت المصادر التاريخية للحديث عن حقبة وجودها في بيت أمير المؤمنين(ع) افتقرت أيضاً عن ذكر شيء عن وجودها الشريف مع الإمامين الهمامين الحسنين(ع) في أرض المدينة المنورة، فلم ينقل لنا عنها شيء أبداً.
في واقعة الطف:
والمعروف تاريخياً أن أم البنين(ع) بقيت في المدينة بعد خروج الإمام الحسين(ع) منها متوجهاً ناحية العراق، إلا أن العلامة المقرم(ره) ذكر في مقتله عدم عثوره على نص يوثق به يدل صراحة على حياتها يوم الطف، وأشار إلى أن مستند القائلين بحياتها في ذلك اليوم يعود إلى ثلاثة أقوال:
الأول: ما جاء في رياض الأحزان للعلامة محمد حسين القزويني(ره) حيث قال: أقيم العزاء والمصيبة في دار أم البنين زوجة أمير المؤمنين، وأم العباس وأخوته.
الثاني: ما جاء في إبصار العين للسماوي: وأنا أسترق جداً من رثاء أمه فاطمة أم البنين الذي أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل، وقد كانت تخرج إلى البقيع كل يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، وفيهم مروان بن الحكم، فيبكون لشجى الندبة.
الثالث: رواية أبي الفرج في مقاتل الطالبيـين، في مقتل العباس عن محمد بن علي حمزة عن النوفلي عن حماد بن عيسى الجهني، عن معاوية بن عمار عن جعفر أن أم البنين أم الأخوة الأربعة القتلى تخرج إلى البقيع تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها فيجتمع الناس إليها ليسمعوا منها، وكان مروان يجئ فيمن يجئ لذلك فلا يزال يسمع ندبتها.
وعقب(ره) على الأقوال الثلاثة، فأجاب عن الأول بجوابين:
أحدهما: أنه لا دلالة للنص المذكور في أنها كانت على قيد الحياة خلال تلك الفترة، بل أقصى ما يستفاد منه أن العزاء قد أقيم في دار أم البنين، ومن المعلوم أن تسمية الدار باسم شخص لا يعني وجود الشخص على قيد الحياة.
ثانيها: إنه بعد التسليم بدلالة النص المذكور على وجودها بعد فاجعة الطف، إلا أنه لا يصح الاستناد إليه، لعدم انطباق عنوان الخبر عليه، بل هو حكاية لفعل قد صدر في تلك الفترة.
وأجاب عن القول الثاني، بأنه تفحص كثيراً في المصادر التاريخية والمصنفات رغبة منه في أن يظفر بكتاب بهذا الاسم لشخص بهذا الاسم، إلا أنه لم يظفر بشيء من ذلك، وقد كرر السؤال على الشيخ السماوي ليعرفه على المصدر ويطلعه عليه، إلا أنه كان يقابل ذلك بالسكوت، حتى أنه ظن فيه أن تكون هذه الأبيات من إنشائه.
وأما بالنسبة للقول الثالث، فإنه وإن كان مستنداً إلى رواية، وهي واضحة الدلالة في حياتها بعد واقعة الطف، إلا أنه لا مجال للاستناد إليها، للخدشة فيها من ناحية السند والمتن.
أما ناحية السند، فلاشتمالها على مجوعة من الضعفاء، ما يمنع من الاستدلال بها، فقد وقع فيه النوفلي وهو يزيد بن المغيرة بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وقد حكى ابن حجر عن أحمد أن عنده مناكير، وعند أبي زرعة ضعيف الحديث، وعامة ما يرويه غير محفوظ، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جداً، وقال نسائي: متروك الحديث.
كما تضمن السند أيضاً معاوية بن عمار، وهو مردد بين غير واحد، فلو كان المقصود منه ابن أبي معاوية فقد حكى في تهذيب التهذيب قول أبي حاتم فيه بأنه لا يحتج بحديثه. أما لو كان المقصود به شخصًا آخر غيره، فهو مجهول الحال.
وأما من ناحية المتن، فهنا ملاحظات:

الأولى: إن الرواية المذكور قد تضمنت ما لا يمكن الالتـزام به من خروج وارثة الزهراء(ع) إلى البقيع للبكاء على أبنائها، ومن المعلوم أن هذا لا يتناسب والشريعة الإسلامية، المتضمنة للنهي عن تعرض المرأة للأجانب تحريماً أو تنـزيهاً ما لم تكن ضرورة داعية إلى ذلك.
الثانية: إنه قد جرت العادة أن تخرج المرأة إلى الجبانة للبكاء على فقيدها حال وجود قبر معروف إليه، ولم ينقل خروج المرأة إلى الجبانة للبكاء على فقيدها المدفون في مكان آخر، لأنه سوف يكون بكائها عليه في الجبانة كبكائها عليه في البيت، ولا ريب في رجحان الثاني.
الثالثة: إن لأبي الفرج الأصفهاني غاية من هذه الفرية التي نسبها لوارثة الزهراء(ع) بدعوى خروجها إلى البقيع لندبة أبنائها، فبعيداً عن أنها تفتقر إلى الشاهد، فقد أراد مدح مروان بن الحكم، وبيان أنه شخص رقيق القلب، لأنه كان ينفعل لرثاء أم البنين فيبكي لما يسمعه منها.
الرابعة: لقد ناقض أبو الفرج الأصفهاني نفسه في المقاتل، لأنه ذكر أن العباس قد حاز ميراث أخوته، ومن الواضح جداً أن هذا لا يكون إلا إذا لم تكن أم البنين على قيد الحياة، لأنها لو كانت كذلك، فإنها تكون في طبقة متقدمة عليه، فلا يكون وارثاً[6].
ـــــــــــــــ.
[5] سورة النور الآية رقم 3.
[6] مقتل الحسين(ع) ص 336-339.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد