من التاريخ

ثورة زيد الشهيد الكبرى

الشيخ باقر شريف القرشي

 

ثار زيد على الحكم الأموي بوحي من عقيدته التي تمثل روح الإسلام وهديه، فقد رأى باطلاً يحيى، وصادقًا يكذب، وأثرة بغير تقى، ورأى جورًا شاملًا، واستبدادًا في أمور المسلمين فلم يسعه السكوت، يقول بعض شيعته: خرجت معه إلى مكة فلما كان نصف الليل، واستوت الثريا قال لي:

«أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحدًا ينالها؟...».

«لا».

«والله لوددت أن يدي ملصقة بها فأقع إلى الأرض أو حيث أقع فأتقطع قطعة قطعة، وأن الله يصلح بين أمة محمد (ص)...»

ودل حديثه على مدى نزعته الإصلاحية وإخلاصه العظيم لأمة جده (ص) وتفانيه في سبيل الإصلاح العام.

 

وروى عيسى بن عبد الله عن جده محمد بن عمر بن علي (ع) قال: كنت مع زيد بن علي حين بعث بنا هشام إلى يوسف بن عمر، فلما خرجنا من عنده، وسرنا حتى كنا بالقادسية قال زيد: اعزلوا متاعي عن أمتعتكم، فقال له ابنه: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أرجع إلى الكوفة، فوالله لو علمت أن رضى الله عز وجل عني في أن أقدح نارًا بيدي حتى إذا اضطرمت رميت نفسي فيها لفعلت!! ولكن ما أعلم شيئَا أرضى لله عز وجل عني من جهاد بني أمية.

إنه لم يفجر ثورته الكبرى طمعًا بالخلافة والملك، وإنما كان يبغي وجه الله والدار الآخرة، وقد رأى أن مناهضة أولئك الظالمين من أعظم ما يقربه الى الله.

ويمم زيد وجهه نحو الكوفة لأنها المركز العام للشيعة، وأن أهلها طلبوا منه القدوم إليهم ليأخذ منهم البيعة على مناهضة الحكم الأموي والإطاحة به، ويقول المؤرخون إن جماعة من المخلصين لزيد حذروه من القدوم إلى الكوفة، وعذلوه من الوثوق بالكوفيين لما عرفوا بهم من الغدر ونقض العهود، إلا أنه لم يعن بذلك، فإنه لم يجد موطنًا تتوفر فيه الإستراتجية للثورة سوى الكوفة، وجعل زيد يتمثل بقول عنترة العبسي:

بكرت تخوفني المنون كأنني                 

أصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجــبتها أن المنــية منهل                 

لابد أن أسقى بكأس المنهل

ودل هذا الشعر على عزمه وتصميمه على الخوض في ميادين الكفاح المسلح، وأنه يسعى بكل جرأة وإقدام ليحتسي كأس المنية ولا يعيش ذليلًا مضامًا، شأنه شأن جده الإمام الحسين سيد الإحرار والأباة في الإسلام.

 

ولما انتهى زيد إلى الكوفة بادر أهلها إليه فرحبوا به ترحيبًا حارًّا، وأسرعوا إليه يبايعونه حتى بلغ عدد المبايعين خمسة عشر ألفًا، وقيل أكثر من ذلك، وبايعه الفقهاء والقضاة وأعلام الفكر والأدب كالاعم ، وسعد بن كدام، وقيس بن الربيع، والحسن بن عمارة وغيرهم وسئل أبو حنيفة عن خروج زيد فقال: «ضاهى خروج رسول الله (ص) يوم بدر» وقال: «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه أمام بحق، ولكن أعينه بمال».

أما صيغة البيعة التي أخذها زيد على من بايعه فهي: «إنا ندعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله، ورد المظالم، ونصرة أهل الحق...».

وتعطي هذه الصيغة صورة عن المبادئ الأصلية التي ثار من أجلها زيد وهي:

١ ـ الدعوة إلى إحياء كتاب الله، وسنة نبيه، فقد أقصتهما السياسة الأموية عن واقع الحياة.

٢ ـ جهاد الظالمين من حكام بني أمية الذين ساسوا المسلمين بالظلم والجور وأرغموهم على ما يكرهون.

٣ ـ الدفاع عن حقوق المستضعفين، وتوفير العطاء للمحرومين، فقد حرموا من جميع حقوقهم الشرعية طيلة الحكم الأموي.

٤ ـ قسمة الفيء، وسائر الحقوق المالية على المسلمين بالسواء، فقد نهبها الأمويون، وأنفقوها على ملاذهم ورغباتهم الخاصة.

٥ ـ نصرة دعاة الحق الذين يعنون بشؤون الأمة، ويسهرون على صالحها، وهم الهداة من أهل البيت (ع).

 

لقد ثار زيد من أجل أن يحقق هذه الأهداف العظيمة في ربوع الوطن الإسلامي الكبير، وينقذ الأمة من عسف الأمويين وظلمهم وبطشهم.

وبعدما توفرت لزيد القوة العسكرية الهائلة التي يبلغ عددها ـ فيما يقول بعض المؤرخين ـ أربعين ألفًا، رأى أن يفجر الثورة، ويزحف بجيوشه إلى احتلال الكوفة والإطاحة بالحكم الأموي.

وانطلقت جيوشه من جبانة سالم وهي تهتف بحياة زعيمها العظيم زيد وسقوط الحكم الأموي، وتنادي بشعار الشيعة «يا منصور أمت» ولما رأى زيد الرايات تخفق على رأسه قال: «الحمد لله الذي هداني والله إني كنت أستحي من رسول الله (ص) أن أرد الحوض ولم آمر بمعروف» وخطب في جيوشه فقال لهم: «عليكم بسيرة أمير المؤمنين علي بالبصرة والشام لا تتبعوا مدبرًا ولا تجهزوا على جريح، ولا تفتحوا مغلقًا، والله على ما نقول وكيل».

وبدأت الحرب في ليلة شديدة البرد لسبع بقين من المحرم سنة (١٢٢ ه‍) وجرت مناوشات واصطدام مسلح بين أتباع زيد وبين الجيوش الأموية تحت قيادة والي الكوفة يوسف بن عمر.

 

الخيانة والغدر

وخان أهل الكوفة زيدًا وغدروا به، بعدما عاهدوا الله على نصرته والذب عنه، فقد أسلموه عند الوثبة، وتركوه مع القلة من أصحابه في ميدان الجهاد، ولما رأى زيد تخاذلهم راح يقول:

«فعلوها حسينية».

لقد غدروا به كما غدروا بجده الحسين من قبل، وأيقن زيد بفشل ثورته، واستبان له أن لا ذمة لأهل الكوفة، ولا وفاء لهم، وقد خاض مع أصحابه الحرب في شوارع الكوفة وأزقتها، وأبلى في المعركة بلاء حسنًا، وما رأى الناس قط فارسًا أشجع منه.

 

فى ذمة الخلود

وأبدى زيد من البسالة والبطولة ما يفوق حد الوصف، فقد أخذ يلاحق الجيوش وينزل بها أفدح الخسائر، ولم يستطع الجيش الأموي أن يصمد أمام الضربات المتلاحقة التي يصبها عليهم زيد، وكان يحمل عليهم ويتمثل بقول الشاعر:

أذل الحياة وعز الممات      

وكلًّا أراه طعـامًا وبـيلا

فإن كان لابد من واحد       

فسيري إلى الموت سيرًا جميلا

لقد آثر زيد عز الممات على ذل الحياة كما آثر ذلك آباؤه، فلم يخضع للذل والعبودية، ومات عزيزًا تحت ظلال السيوف والرماح.

 

ولما جنح الليل رمي زيد بسهم غادر فأصاب جبهته ووصل إلى دماغه الشريف الذي ما فكر إلا في صالح الإنسان وسعادته. وحلت الكارثة بأصحابه، وهاموا في تيارات مذهلة من الأسى والحزن، وطلبوا له طبيبًا فانتزع منه السهم فتوفي من فوره، وقد انطفأت بذلك الشعلة الوهاجة التي كانت تضيء الطريق وتوضح القصد للمسلمين.

لقد استشهد زيد من أجل أن يحقق العدالة الاجتماعية في الأرض، ويحقق للمسلمين الفرص المتكافئة، ويوزع خيرات الأرض على الفقراء والمحرومين الذين كفرت السلطة الأموية بجميع حقوقهم.

ويقول المؤرخون: إن أصحاب زيد حاروا في مواراة جثمانه خوفًا عليه من السلطة التي لا تتورع من التمثيل الآثم به، وبعد المداولة صمموا على مواراته في نهر هناك، فانطلقوا إلى النهر فقطعوا ماءه وحفروا فيه قبرًا وواروا الجسد الطاهر فيه، ثم أجروا الماء، وانصرفوا وهم يذرفون الدموع على القائد العظيم الذي تبنى حقوق المظلومين والمضطهدين.

وكان مع أصحاب زيد أحد عيون السلطة يراقب تحركاتهم فبادر مسرعًا إلى الكوفة وأخبر حاكمها بموضع الدفن، فأمر بنبش القبر وإخراجه منه فأخرج، وحمل إلى قصر الكوفة، وأمر بصلبه منكوسًا في سوق الكناسة، وعمدوا إلى احتزاز رأسه الشريف، وأرسل هدية إلى طاغية الشام هشام بن عبد الملك، وأمر الرجس بوضع الرأس في مجلسه، وأمر جميع من يدخل عليه أن يطأه بحذائه مبالغة في توهينه، وجعلت الدجاج تنقر دماغه وفي ذلك يقول الشاعر:

أطردوا الديك عن ذؤابة زيد               

طال ما كان لا تطأه الدجاج

ابن بنت النبي أكرم خلـ              

ـق الله زين الوفـود والحجاج

حملوا رأسه الى الشام ركضًا               

بالسرى و البكور والإدلاج

 

وأمر الطاغية بنصب الرأس الشريف على باب دمشق، ثم أرسل إلى المدينة فنصب عند قبر النبي (ص) يومًا وليلة، ثم أرسله إلى مصر، كل ذلك لإذاعة الخوف والإرهاب بين الناس، وإعلامهم على قدرة السلطة على سحق أية معارضة تقوم ضدها.

وكتب طاغية دمشق إلى السفاك يوسف بن عمر حاكم الكوفة بأن يبقى زيدًا مصلوبًا، ولا ينزله عن خشبته قاصدًا بذلك إذلال العلويين والاستهانة بشيعتهم، وقد فاته أن ذلك قد أوقد نار الثورة في نفوسهم، وزادهم عزمًا وتصميمًا على التضحية في سبيل مبادئهم.

وقد افتخر الأمويون بابقاء جثة زيد مصلوبة، وقد اعتز بذلك وغد من عملائهم وهو الحكيم بن عياش يقول:

صلبنا لكم زيدًا على جذع نخلة              

ولم نر مهديًّا على الجذع يصلب

وقستم بعثمان عليًّا سفاهة             

وعثمان خير من علي وأطيب

 

وإن زيدًا إنما صلب دفاعًا عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وصلب من أجل أن يحقق العدالة الاجتماعية في الأرض، ويقضي على الغبن الاجتماعي والتلاعب بمقدرات الأمة وخيراتها.

ولما بلغ هذا الشعر الإمام أبا عبد الله الصادق تألم كأشد ما يكون التألم ورفع يديه بالدعاء قائلا: «اللهم إن كان عبدك كاذبًا فسلط عليه كلبك» واستجاب الله دعاء الإمام فافترسه أسد وهو يدور في سكك الكوفة ولما انتهى خبره إلى الإمام سجد لله شاكرًا وهو يقول: الحمد لله الذي أنجزنا وعده.  

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد