من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

هجرة النبي (ص) والمبيت في غار ثور

إن ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أمضى هو وأبو بكر ليلة الهجرة وليلتين أخريين بعدها في غار ثور، الّذي يقع في جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة [1].

وليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة والمرافقة ولماذا، فإن هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فإن البعض يعتقد بأن هذه المصاحبة كانت بالصدفة، فقد رأى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أبا بكر في الطريق، فاصطحبه معه إلى غار ثور.

وروى فريق آخر أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ذهب في الليلة نفسها إلى بيت أبي بكر، ثم خرجا معًا في منتصف الليل إلى غار ثور [2].

وقال فريق ثالث: أن أبا بكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ وكان (صلى الله عليه وآله) قد خرج من قبل فأرشده «عليّ» إلى مخبأ النبيّ (صلى الله عليه وآله).

وعلى كل حال فإن كثيراً من المؤرخين يعدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدثون عنها بكثير من الإسهاب والإطناب، وبمزيد من الإكبار والإعجاب.

 

قريش تفتش عن النبيّ (صلى الله عليه وآله):

لقد بادرت قريش إلى بثّ العيون والجواسيس في طرقات مكة، ومراقبة مداخلها ومخارجها مراقبة شديدة، وبعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان، وفي طريق مكة ـ المدينة خاصة.

ومن جانب آخر جعلت مائة إبل لمن يأخذ نبي اللّه(صلى الله عليه وآله)، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح.

وعمد جماعة من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والتفتيش عنه في شمال مكة، حيث الطريق المؤدي إلى المدينة، على حين أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان قد اختبأ في نقطة بجنوب مكة لإفشال عملية الملاحقة.

وتصدت مجموعة أخرى لتتبع أثر قدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ورفيقه!!

وكان الّذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال هذه قدم محمّد (صلى الله عليه وآله)، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان، إما أن يكونا صعدا إلى السّماء أو دخلا تحت الأرض، فإن بباب هذا الغار ـ كما ترون عليه ـ نسجُ العنكبوت والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار [3]، فلم يدخلوا الغار.

ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى، فلما يئس القوم بعد ثلاثة أيام من السعي تركوا التفتيش وكفوا عن الملاحقة.

 

التفاني في سبيل الحق

إن النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه ‌السلام من تفان في سبيل الحق، والحقيقة.

إن التفاني في سبيل الحق من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحق وعشقوه بكل وجودهم وكيانهم.

إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية، ويستخدمون كل طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل خدمة الحق، وإحيائه، وإقامته هم ولا شك من عشاق الحق والحقيقة الصادقين.

إنهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة، والعيش المؤقت، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

إنّ مبيت عليّ عليه ‌السلام في فراش رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في تلك الليلة الرهيبة، لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق، والعشق الصادق للحقيقة، فإن الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلاّ حبّ «عليّ» لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع، ويضمن ازدهار الحياة، لا غير.

إن لهذه التضحية والتفاني من القيمة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم، ووصفها بأنها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه، فإن الآية التالية نزلت ـ حسب رواية اكثر المفسرين ـ في هذا المورد: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رؤوفٌ بِالْعِباد» [4].

ان عظمة هذه الفضيلة واهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الامام علي عليه‌السلام وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والايثار ، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ اليها [5].

إنَّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبداً فإنه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للامام أمير المؤمنين عليه ‌السلام مما لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب، ولكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد «سمرة بن جندب» الّذي أدرك عهد رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، ثم انضمّ بعد وفاته صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم إلى بلاط معاوية بالشام، إلى تحريف الحقائق لقاء أموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يَرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه ‌السلام، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ (أي عبد الرحمان بن ملجم المرادي)، ويأخذ في مقابل هذه الأكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الظضيع الّذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل «سمرة» بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوداً بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل وذلك عند ما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية[6].

وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أن (عبد الرحمان بن ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز، بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرض أهلها وأنصارها للحوادث، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة أخرى، واعترف أغلبُ المفسرين الأجلّة[7] والمحدّثين الأفاضل ـ في العصور والأدوار المختلفة، بأن الآية المذكورة نزلت في «ليلة المبيت» في بذل علي عليه ‌السلام ومفاداته النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم بنفسه[8].

 ــــــــــــــــــــــــــ

[1] حيث إن الطريق المؤدي إلى المدينة تقع في شمال مكة، فاختبأ النبيّ (صلى الله عليه وآله) في منطقة مقابلة أي في أسفل مكة، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.

[2] تاريخ الطبري: ج 2، ص 100.

[3] الطبقات الكبرى: ج 1، ص 229 تاريخ الخميس، ج 1، ص 327 ـ 328 وغيرها، ولقد ذكر عامة المؤرخين هذه الكرامة هنا، ولا ينبغي تأويل مثل هذا الكرامات.

[4] البقرة : 207.

[5] مسند أحمد : ج 1 ، ص 87 ، وكنز العمال : ج 6 ، ص 407 ، وقد نقل كتاب الغدير : ج 2 ، ص 47 ـ 49 طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن علي عليه ‌السلام على نحو التفصيل، فراجع.

[6] لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ، ص 73.

[7] شرح نهج البلاغة : ج 13 ، ص 262 ، ولقد أعطى ابن أبي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.

[8] سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الأموية، ولم يكتف سمرة بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه، بل أضاف إلى ذلك ـ حسب رواية ابن أبي الحديد ـ أمراً آخر أيضاً إذ قال: ونزل في شأن «عليّ» قول اللّه: «وَمِنَ الناس من يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُنيا ويشهدُ اللّه على ما في قلبهِ وَهُو ألَدُّ الخِصام» ( البقرة : 204 ).

ومن جرائم هذا الرجل أنه قتل يوم وُلّيَ البصرة على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم وعندما سأله معاوية: هل تخاف أن تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟

أجاب قائلا: لو قتلتُ إليهم مثلَهم ما خشيت!!

هذا ومخازي هذا الرجل أكثر من أن تستوعبه هذه الصفحات القلائل.

وسمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم: «إنك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد