من التاريخ

أسطورة الغرانیق

 

نقلت روایات عجیبة عن ابن عباس بخصوص أسطورة الغرانیق فی کتب أهل السنة ومن جملتها: کان النبی منشغلاً بقراءة سورة النجم فی مکة، وعندما وصل إلى الآیات التی تذکر أصنام المشرکین وذلک فی قوله تعالى: « أَفَرَأَیْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى»[1] أجرى الشیطان جملتین على لسان النبی: «تلک الغرانیق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»[2] وقد انشرح المشرکون لهذا الکلام وأبدوا ارتیاحهم وقالوا: «ما زال محمد یذکر آلهتنا بخیر» وعندها سجد النبی و سجد المشرکون معه. فنزل جبرئیل و أخبر النبی بأنه لم یأتِ بالجملتین مع ما أوحی له، وأن هذا الکلام من عمل الشیطان وخدعه، فنزلت الآیات مورد البحث فی قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِیٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّیْطَانُ فِی أُمْنِیَّتِهِ فَیَنْسَخُ اللَّهُ مَا یُلْقِی الشَّیْطَانُ ثُمَّ یُحْکِمُ اللَّهُ آیَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِیمٌ حَکِیمٌ» کإنذار للنبی والمؤمنین.[3]

ومع أن الکثیر من المتربصین بالإسلام وما یبدون من محاولات للحط من منزلة النبی (ص) قد نقلوا الروایة ظناً منهم أنهم وجدوا فرصة ملائمة لتحقیق أهدافهم، فأعطوها أکبر من حجمها وأضافوا إلیها الکثیر. إلا أن القرائن والشواهد الکثیرة دل على أن هذه الروایة موضوعة تستهدف سلب القرآن وکلام النبی ما یتمتع به من قوة و تأثیر من خلال إلصاق صفة الشیطانیة به، ومن الأدلة على وضعها:

أولاً: یقول المحققون إن رواة هذا الحدیث من الضعفاء وغیر الموثوقین وإن صدور الروایات عن ابن عباس لیس بالأمر المعلوم. وکما یقول «محمد بن اسحاق» إن هذا الحدیث من وضع الزنادقة، وقد کتب کتاباً بهذا الموضوع.[4]

ثانیاً: وردت روایات وأخبار کثیرة فی مسألة نزول سورة النجم و سجود النبی (ص) والمسلمین وفي کتب مختلفة، ولم یکن لأسطورة الغرانیق أثرٌ یذکر فی هذه الکتب، مما یدل على أن هذه القضیة زیدت على الروایات فی وقت متأخر.[5]

ثالثاً: إن الآیات الواردة فی صدر سورة النجم تنفی هذه الأسطورة بصراحة فإذا کان تعالى یقول: «وما ینطق عن الهوى»،[6] فکیف تنسجم هذه الآیة مع ما تدل علیه أسطورة الغرانیق؟

رابعاً: إن الآیات التی جاءت بعد ذکر أسماء الأصنام سیقت لذمها حیث صرحت بذلک: «إِنْ هِیَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُکُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى»،[7] فکیف ینسجم هذا الذم الشدید مع المدح المدعى فی الآیات المتقدمة، إضافةً إلى أن الله تعالى صرح بأن القرآن محفوظ من کل تحریف و«لا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِیلٌ مِنْ حَکِیمٍ حَمِیدٍ». «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».[8]

خامساً: إن صراع النبی مع الأصنام وعبدتها صراعٌ مریر لا هوادة فیه منذ بعثته وحتى وفاته، و قد أظهر النبی صلابة نادرة فی محاربة الأصنام وعبادتها، دون أن یعتریه أي ضعف أو تردد فی ذلک ولم یقدم أي تنازل یذکر فی هذا الصراع حتى فی أحلک ظروفه وأسوء حالاته، فکیف یمکن له أن یذکر مثل هذه الألفاظ و تجري على لسانه!.

سادساً: حتى أولئک الذين لا یعتقدون بأن النبی مبعوث من الله فإنهم یعترفون بأنه رجل حکیم ومدبر وواع، حیث تمکن من أن یحقق الکثیر من الانتصارات نتیجة لتدبیره وحکمته، فهل یمکن لشخصٍ مثل النبی (ص) الذي کان شعاره الأساسی «لا إله إلا الله» یشغله الشاغل مقارعة الشرک والمشرکین وتحطیم الأصنام و إزالتها بالکامل.

فهل من الممکن أنه یترک أهدافه وینسى شعاره و یجري على لسانه مدح الأصنام و الثناء علیها؟!

و من الواضح أن ما تقدم من البحث یثبت أن أسطورة الغرانیق وضعها أعداء الإسلام الذین یحاولون النیل من القرآن و النبی الأکرم (ص)، ولذلک فإن جمیع المحققین من السنة والشیعة یرفضون هذه الروایة رفضاً قاطعاً، و ینسبونها إلى وضع الوضاع.[9]

ولکن بعض المفسرین ذکروا تفسیراً وتعلیلاً لهذه الروایة یحسن ذکره على فرض القبول بثبوت الروایة، ومما جاء فیه: حیث إن النبی کان یقرأ آیات القرآن بتأنٍ ورویة، وقد یتخلل ذلک لحظات من السکوت لیتمکن من جذب قلوب الناس، وعندما کان مشغولاً بتلاوة آیات سورة النجم: «أفرأیتم اللات...» استغل بعض شیاطین المشرکین سکوته فنطقوا بالجملة المذکورة: «تلک الغرانیق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» وکانت بلحنٍ خاص مستهدفین إضفاء لحن معوج على ما کان یلقی النبی من القرآن، إضافة إلى إیهام الناس وإلقاء الشبهات فی أذهانهم، ولکن الآیات التی تلت ذلک جاءت بردٍ شدید، وإدانةٍ لقضیة الأصنام بشدة.[10]

 

ومن هنا اتضح أن الذین أرادوا جعل قصة الغرانیق دلیلاً على میل النبی إلى عبدة الأصنام واستمالتهم إلى الإسلام قد وقعوا فی خطأ کبیر، وإن هؤلاء لم یدرکوا موقف النبی التاریخي من الأصنام وعبدتها، ولعلهم لم یطلعوا على التاریخ ومصادره الأساسیة لیعلموا جیداً ما کان من محاولات المشرکین الکثیرة وعروضهم المغریة التی عرضوها على النبی شریطة أن یقدم تنازلاً عن بعض أهدافه وغایته إلا أنه رفض کل ذلک ولعلهم رأوا ذلک ولکنهم تجاهلوه.[11]

 

[1] النجم 19 و 20.

[2] غرانیق جمع غرنوق، نوع من الطیور المائیة البیضاء أو السوداء و کذلک جاءت بمعان أخرى (قاموس اللغة).

[3] جاء فی المیزان فی تفسیر الآیة المشار إلیها، ورد هذا الحدیث نقلاً عن جماعة من حفاظ أهل السنة من جملتهم ابن حجر.

[4] التفسیر الکبیر، الفخر الرازی، ص 23، ص 50.

[5] المصدر نفسه.

[6] النجم 3 و 4 "و ما ینطق عن الهوى إن هو إلا وحیٌ یوحى".

[7] النجم، 23.

[8] الحجر، 9.

[9] مجمع البیان، التفسیر، الفخر الرازی، القرطبی، فی ظلال، تفسیر الصافی، روح المعانی و المیزان و تفاسیر أخرى.

[10] تفسیر «القرطبی» ج 7، ص 4474 و کذلک نقلها «المرحوم الطبرسی» فی «مجمع البیان» کأحد الاحتمالات.

[11] نقلاً عن التفسیر الأمثل، ج 14، ص 142 ـ 145.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد