كيف تتحرك الفتنة وتنمو؟
ويصف الإمام في نص آخر كيف تبدأ الفتنة، ويصور آلية حركتها وانتشارها في المجتمع، وذلك في سياق وصفه للفتنة الغالبة التي كانت نذرها تطل على المجتمع الإسلامي في عهده: ... ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات
النعمة واحذروا بوائق النقمة (1)، وتثبتوا في قتام العشوة (2) واعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها ومدار رحاها.
تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية. شبابها كشباب الغلام (3)، وآثارها كآثار السلام (4) يتوارثها الظلمة بالعهود، أولهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأولهم. يتنافسون في دنيا دنية، ويتكالبون على جيفة مريحة (5). وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء (6) ويتلاعنون عند اللقاء (7).
في هذا النص صور الإمام آلية حركة الفتنة، ونموها وانتشارها في المجتمع، فأبرز الملامح التالية:
1 - إن شيوع روح الترف في المجتمع، واستغراق النخبة في الترف يؤديان بالمجتمع إلى أن يفقد روحه النضالية الرسالية، ويحرص على حياته الهينة الناعمة، وعلى توفير الوسائل الملائمة لبلوغ مستوى من الحياة أكثر نعومة ولينا. كما أن النخبة في هذه الحالة تصاب بالترهل والعجز والجبن. وشيوع هذه الروح، روح الترف، في مجتمع لا يزال في مرحلة تكوين نفسه، ومحاط بالقوى المضادة الخائفة، ويحتوي تركيبه الداخلي على نقاط ضعف ناشئة من كونه يضم جماعات لم تتمثل بعد بدرجة مرضية وعميقة رسالته التي يعتنقها ويبشر بها... - شيوع هذه الروح في مجتمع كهذا - وهو ما كأنه المجتمع الإسلامي في ذلك الحين - يجعله مهيأ لنمو روح الفتنة فيه وانتشارها.
لقد حذر الإمام من هذا بقوله: (احذروا سكرات النعمة...).
2 - تقع في الحياة العامة أحداث، أو يواجه المجتمع حالات معينة، تسبب هذه أو تلك التباسًا في طريقة التعامل مع بعض المفاهيم الرسالية ومفاهيم المعتقد على ضوء الواقع الذي حصل (مثلاً: التغيرات التي نشأت نتيجة لتوسع حركة الفتح في إيران والمستعمرات البيزنطية... والاحتكاك بالحضارتين الإيرانية، والرومانية - الشرقية.. - أو الحيرة التي نشأت نتيجة لمقتل الخليفة عثمان بن عفان)... في هذه الحالات قد تتخذ النخبة أو القيادة السياسية للمجتمع قرارات مرتجلة، وتخضع لآلية الفعل ورد الفعل، بعيدًا عن التروي (مثلاً: كالذي حدث عند مطالبة الإمام علي بعد البيعة فورًا بأن يقبض على المتهمين بقتل عثمان ويعاقبهم، فقد قال له قوم من الصحابة: لو عاقبت قومًا ممن أجلب (8) على عثمان؟ فقد أجابهم الإمام جواب رجل الدولة المسؤول الناظر إلى عواقب الأمور، البعيد عن الانفعال:
يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم (9) يملكوننا ولا نملكهم! وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت إليهم أعرابكم (10) وهم خلالكم (11) يسومونكم ما شاؤوا (12) وهل ترون موضعًا لقدرة على شيء تريدونه! إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة (13). إن الناس من هذا الأمر إذا حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك. فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها (14) وتؤخذ الحقوق مسمحة (15).
فاهدأوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة، وتسقط منة (16)، وتورث وهنًا وذلة. وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بدًّا فآخر الدواء الكي (17).
وهكذا نرى الإمام يطلب إلى هؤلاء المتعجلين أن يلزموا جانب التروي، وأن يتركوا له اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وألا يخضعوا لمنطق الفعل ورد الفعل لأن هذا يؤدي إلى التباس في المفاهيم، وتخبط في المواقف، وأخطاء في القرارات تجعل المناخ العام أكثر ملاءمة لروح الفتنة. وقد أشار الإمام إلى ذلك بقوله: وتثبتوا في قتام العشوة...
3 - حين يتهيأ المناخ الملائم نتيجة للعاملين الآنفي الذكر تبدأ الفتنة بظواهر انحرافية بسيطة وهينة، يقابلها المجتمع بوجه عام، ونخبته السياسية والفكرية بوجه خاص، بالتسامح واللامبالاة، وهذا ما يوفر لهذه الظواهر الانحرافية مناخ الأمان وفرص الاتساع والنمو. وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية.
4 - وعلى خلاف وضع الفتنة حين تبدأ خفية حية، تلوذ وراء المبررات وتغطي نفسها بشعارات خادعة، فإنها حين تنمو وتتسع وتؤول إلى فظاعة جلية يكون لها عنفوان وتسلط وبطش، وتبدأ بطبع آثارها العميقة في بنية المجتمع، وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: شبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السلام.
5 - بعد انتشار الفتنة، واتساع المساحات التي تستوعبها من فئات المجتمع، تكون قناعات تجعلها أشد رسوخًا في الذهنية العامة، وتغدو ثقافة شائعة ترتكز إليها السلطة التي تقود حركة الفتنة، وتوجه المجتمع وفقا لقوانينها، وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: يتوارثها الظلمة بالعهود، أولهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأولهم...
6 - ولكن الوضع السياسي لقادة الفتنة - بعد انتشارها، وتأصلها في بنية المجتمع - لا يبقى موحدًا ومتلاحمًا، وإنما تبرز التناقضات والسمات الشخصية لكل فئة، والمطامع والمخاوف الخاصة بكل جماعة. وحينئذ تنقسم قيادة الفتنة إلى فئات متخاصمة متناحرة، وتجر المجتمع وراءها إلى التخاصم والتناحر والحروب الأهلية، وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله:... وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللقاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البوائق: جمع بائقة، وهي الواهية، والمصيبة الكبيرة.
(2) القتام: الغبار، العشوة الظلام. يعني أن الموقف الآتي شديد الالتباس لأنه مظلم في نفسه ويثور مع ذلك حوله الغبار. ويعني بذلك الفتنة الآتية.
(3) شباب الغلام: فتوته وعنفوانه، والفتنة تبدأ هكذا ذات عنفوان.
(4) السلام الحجارة الصم، وأثرها في الأبدان الجرح والكسر.
(5) مريحة: منتنة.
(6) يتزايلون: يتفارقون وينفصل بعضهم عن بعض.
(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 151.
(8) أجلب عنه: أعان عليه.
(9) على حد شوكتهم: الشوكة الشدة، أي لم يضعف هيجانهم.
(10) التفت... انضمت إليهم واختلطت بهم.
(11) وهم خلالكم... أي بينكم.
(12) يسومونكم.. يكلفونكم بما يريدون من الأفعال والمواقف.
(13) مادة: مددًا وأنصارًا.
(14) تقع القلوب مواقعها: تهدأ وتستقر بعد اضطرابها بسبب هيجان الفتنة.
(15) مسمحة: أي سهلة ميسرة وهذا حين تهدأ العواطف، ويثوب الناس إلى المنطق والقانون.
(16) المنة: القوة والقدرة، ينهاهم عن الأعمال المرتجلة المتسرعة التي تسبب انشقاقًا وتمزقًا في المجتمع يضعفه ويوهن قوته.
(17) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 168.
الشيخ محمد باقر الأيرواني
السيد محمد باقر الصدر
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
محمد رضا اللواتي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
الإمام المهدي (ع) بين التواتر وحساب الاحتمال (1)
فكرة المهدي وجذورها في التاريخ
ما الذي يمكن أن نتعلمه من العظماء؟
شروط نصرة المؤمنين في الحرب بوسائل غيبية كما ورد في القرآن (2)
الفتنة الغالبة (3)
العرفان السياسي كمنشئ لحضارة التوحيد (2)
القمر ليس خاملًا جيولوجيًّا كما كان يُعتقد سابقًا
زكي السالم: كونُك شاعرًا .. هل أنت وغيرك سواء!؟
الفتنة الغالبة (2)
طول عمر الإمام المهدي (عج)