من التاريخ

شموخ الإمام الحسن (عليه السلام) أمام غطرسة معاوية (2)

الشيخ علي الكوراني

 

.... أيها الناس: إني لو قمت حولاً فحولاً أذكر الذي أعطانا الله عز وجل وخصَّنا به من الفضل في كتابه وعلى لسان نبيه (صلى الله عليه وآله) لم أحصه، وأنا ابن النبي النذير البشير والسراج المنير الذي جعله الله رحمة للعالمين، وأبي عليٌّ وليُّ المؤمنين وشبيه هارون. وإن معاوية بن صخر زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً فكذب معاوية! وأيمُ الله لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله، غير أنّا لم نزل أهل البيت مُخَافين مظلومين مضطهدين منذ قبض رسول الله، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا ونزل على رقابنا وحمل الناس على أكتافنا، ومنعنا سهمنا في كتاب الله من الفيء والغنائم، ومنع أمنا فاطمة (عليها السلام) إرثها من أبيها! إنّا لا نسمي أحداً ولكن أقسم بالله قسماً تالياً لو أن الناس سمعوا قول الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما اختلف في هذه الأمة سيفان، ولأكلوها خضراء خَضِرَةً إلى يوم القيامة..

 

 وإذاً ما طمعت فيها يا معاوية! ولكنها لما أخرجت سالفاً من معدنها، وزحزحت عن قواعدها تنازعتها قريش بينها وترامتها كترامي الكرة، حتى طمعت فيها أنت يا معاوية وأصحابك من بعدك! وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما ولَّت أمة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا! وقد تركت بنو إسرائيل وأصحاب موسى هارون أخاه وخليفته ووزيره وعكفوا على العجل وأطاعوا فيه سامريهم، ويعلمون أنه خليفة موسى (عليه السلام)! وقد سمعت هذه الأمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ذلك لأبي (عليه السلام): إنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

 

وقد رأوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين نصبه لهم بغدير خم وسمعوه ونادى له بالولاية ثم أمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب! وقد خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) حذراً من قومه إلى الغار، لما أجمعوا أن يمكروا به وهو يدعوهم لما لم يجد عليهم أعواناً، ولو وجد عليهم أعواناً لجاهدهم. وقد كف أبي يده وناشدهم واستغاث أصحابه فلم يُغث ولم يُنصر، ولو وجد عليهم أعواناً ما أجابهم، وقد جعل في سعة كما جعل النبي (صلى الله عليه وآله) في سعة! وقد خذلتني الأمة وبايعتك يا ابن حرب! ولو وجدت عليك أعواناً يخلصون ما بايعتك، وقد جعل الله عز وجل هارون في سعة حين استضعفه قومه وعادوه، كذلك أنا وأبي في سعة من الله حين تركتنا الأمة وبايعت غيرنا، ولم نجد عليهم أعواناً! وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً.

 

أيها الناس: إنكم لو التمستم بين المشرق والمغرب رجلاً جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبوه وصيُّ رسول الله، لم تجدوا غيري وغير أخي، فاتقوا الله ولا تضلوا بعد البيان، وكيف بكم وأنى ذلك لكم؟ ألا وإني قد بايعت هذا، وأشار بيده إلى معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.

 

أيها الناس: إنه لا يُعاب أحد بترك حقه، وإنما يعاب أن يأخذ ما ليس له، وكل صواب نافع، وكل خطأ ضار لأهله... أيها الناس: اسمعوا وعوا واتقوا الله وراجعوا، وهيهات منكم الرجعة إلى الحق وقد صارعكم النكوص وخامركم الطغيان والجحود، أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ؟! والسلام على من اتبع الهدى!

 

فقال معاوية: والله ما نزل الحسن (عليه السلام) حتى أظلمت عليَّ الأرض وهممتُ أن أبطش به، ثم علمت أن الإغضاء أقرب إلى العافية).

 

نلاحظ في هذه الخطبة:

 

1 - أن هذا الشموخ في شخصية الإمام (عليه السلام) ناشئ من عالمه السامي الذي يعيش فيه (عليه السلام)، وهذا ما لا يفهمه بعضهم فيتصورونه تكبراً! قال ابن شعبة في تحف العقول / 234: قيل للإمام الحسن (عليه السلام): (إن فيك عظمة فقال (عليه السلام): بل فيَّ عزة، وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). (ورواه الزمخشري في ربيع الأبرار / 638، والتوحيدي في البصائر / 27، وفي نثر الدرر للآبي / 150، ونزهة الناظر للحلواني / 74، ومناقب آل أبي طالب : 3 / 176).

 

وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 1 / 176: (وكان نقش خاتم الحسن بن علي (عليهما السلام): العزة لله، وكان نقش خاتم الحسين: إن الله بالغ أمره).

 

2 - أن منطق معاوية مع الإمام الحسن (عليه السلام) هو نفس منطق أبي سفيان مع النبي (صلى الله عليه وآله) فهو يقوم على تسقيط الآخرين، والفرعنة والعلو بدون دليل! ويفتقر إلى الحد الأدنى من اللياقة التي يستعملها رؤساء القبائل عادة في مثل هذه المناسبة! فلو كان المتكلم بدل معاوية الأحنف بن قيس رئيس بني تميم، وحتى الأشعث رئيس كندة، عدو علي والحسن (عليها السلام)، لقالا كلاماً فيه شئ من اللياقة! أما معاوية فقد أفرغ كل سمه و(يهوديته) في كلامه فقال: (أيها الناس، هذا الحسن بن علي وابن فاطمة رآنا للخلافة أهلاً ولم يرَ نفسه لها أهلاً، وقد أتانا ليبايع طوعاً. ثم قال: قم يا حسن)!

 

فانظر إلى قوله (ابن علي وابن فاطمة) الذي يقصد به أن الحسن وارث علي ومحمد من آل عبد المطلب، جاءنا طائعاً واعترف بحقنا نحن بني أمية، وبالخصوص آل أبي سفيان، وشهد على نفسه وأبيه وجده بأنا نحن معدن الحق وأهل القيادة دونهم! فقم يا حسن فبايع! وبهذا يلغي معاوية النبوة والوحي والإسلام كلياً من صراع بني أمية وقبائل قريش مع النبي (صلى الله عليه وآله)! فالمؤمن بالإسلام لا يمكنه أن يتكلم بمثل هذا المنطق!

 

3 - أن الإمام الحسن (عليه السلام) لم تهتز منه شعرة لمنطق معاوية الفرعوني، فتصدى له بمنطق النبوة، فتحدث بعمق وصراحة عن بعثة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) وما خصه الله تعالى به، وعن موقف المكذبين القرشيين بقيادة أبي سفيان ومعه أولاده وابنه معاوية، والحقوق الشرعية التي ترتبت عليهم، حتى صاروا أسرى حرب للنبي وآله (صلى الله عليه وآله) في فتح مكة! وأفاض في موقف المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله) وفي طليعتهم علي (عليه السلام) والعترة، وما وفقهم الله إليه من نصرة النبي (صلى الله عليه وآله) وما رتبه لهم من حقوق بنص كتابه ونص نبيه (صلى الله عليه وآله)، وما خصهم به من فرض طاعتهم على جميع الأمة، بمن فيها الصحابة والقرشيين الأسرى الطلقاء!

 

4 - أن الإمام (عليه السلا ) كان يرى أنه اضطر إلى بيعة الطاغية معاوية والتنازل له عن الحكم، لكنه غير مضطر أبداً إلى مداراته والسكوت على منطقه الجاهلي، ولذلك كان دائماً قوياً في بيان الحق وقمع باطل معاوية وإفحامه، فيجب عنده أن يسجل موقفه للأجيال وأن يُلفت الأمة التي استسلمت لمعاوية وتركت عترة نبيها (صلى الله عليه وآله) أيَّ طريق ضلال اختارته! وفي بلعوم أي طاغية وضعت نفسها!

 

5 - من الطبيعي بمقتضى الصلح، أن يخطب معاوية عند قدومه إلى الكوفة ، ويخطب الإمام الحسن (عليه السلام) فيعلن للمسلمين تنازله عن الحكم لمعاوية! لهذا لا يمكن قبول ما روي من أن خطبته (عليه السلام) كانت بناء على طلب عمرو بن العاص وإصراره على معاوية، وأن غرض عمرو أن يخجل الإمام الحسن (عليه السلام) لأنه لا يجيد التصرف في مثل ذلك الموقف أو لا يجيد الخطابة، وأن معاوية لم يكن راغباً في أن يخطب الإمام (عليه السلام) ولكنه وافق، ثم ندم ولام ابن العاص.. الخ.

 

فهذا أمر غير معقول، ولذا نقله في الإحتجاج: 1 / 420، بصيغة (رُوِيَ)، بل الصحيح ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 8 / 634 من أن الإمام الحسن (عليه السلام) أراد ترك الكوفة لمعاوية بدون أن يخطب فاعتبر معاوية ذلك خطيراً، لأن ترك الخطبة بمثابة ترك الإمضاء العملي للصلح قال: (عن الشعبي قال: لما كان الصلح بين الحسن بن علي ومعاوية أراد الحسن الخروج إلى المدينة فقال له معاوية: ما أنت بالذي تذهب حتى تخطب الناس، قال قال الشعبي: فسمعته على المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: فإن أكيسَ الكيْس التقى، وإن أعجز العجز الفجور وإن هذا الأمر الذي اختلفت أنا فيه ومعاوية حقٌّ كان لي فتركته لمعاوية، أو حق كان لا يُرى أحق به مني، وإنما فعلت هذا لحقن دمائكم، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، ثم نزل).

 

وما رواه الذهبي في تاريخ الإسلام: 4 / 39، وابن عساكر في تاريخ دمشق: 46 / 59، والوافي بالوفيات: 12 / 69: (لما بايع الحسن معاوية قال له عمرو بن العاص وأبو الأعور السلمي: لو أمرت الحسن فصعد المنبر فتكلم فإنه عيي عن المنطق فيزهد فيه الناس! فقال معاوية: لا تفعلوا فوالله لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمص لسانه وشفته ولن يعيا لسان مصه النبي له شفة، قال فأبوا على معاوية فصعد معاوية المنبر ثم أمر الحسن فصعد، وأمره أن يخبر الناس إني قد بايعت معاوية فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإني قد أخذت لكم على معاوية أن يعدل فيكم، وأن يوفر عليكم غنائمكم وأن يقسم فيكم فيأكم، ثم أقبل على معاوية فقال: أكذاك؟ قال: نعم. ثم هبط من المنبر وهو يقول ويشير بإصبعه إلى معاوية: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، فاشتد ذلك على معاوية فقالوا: لو دعوته فاستنطقته يعني استفهمته ما عنى بالآية؟ فقال مهلاً فأبوا عليه فدعوه فأجابهم فأقبل عليه عمرو فقال له الحسن: أما أنت فقد اختلف فيك رجلان رجل من قريش ورجل من أهل المدينة فادَّعياك فلا أدري أيهما أبوك!

 

وأقبل عليه أبو الأعور فقال له الحسن: ألم يعلن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رعلاً وذكوان وعمرو بن سفيان؟! وهذا اسم أبي الأعور! ثم أقبل عليه معاوية يعينهما فقال له الحسن: أما علمت أن رسول الله لعن قائد الأحزاب وسائقهم، وكان أحدهما أبو سفيان والآخر أبو الأعور السلمي)! (ورواه في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) من طبقات ابن سعد / 79).

 

أقول: لقد خلط الرواة بين خُطَب للإمام الحسن (عليه السلام) أحدها هذه في الكوفة، والثانية جواباً على كلام معاوية ولعلها كانت في المدينة. وثالثتها المناظرة الصاخبة القاصعة بينه وبين معاوية ووزرائه، وهي التي طعن فيها في نسب ابن العاص وغيره وقد جعلتها رواية الذهبي جزء من خطبته (عليه السلام ) في الكوفة!

 

وينبغي الإلفات إلى أن مقولة أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان في لسانه تأتأة، قد تسربت إلى بعض مصادرنا! والفأفأة: تكرار التاء في أول الكلام. والرُّثَّة بالثاء والضم: العجمة في الكلام وعدم بيان حروفه، والرُّتَّة: بالتاء أشد منها وهي إدغام حرف في حرف وعدم بيان الحروف. (منتهى المطلب: 1 / 372، وصحاح الجوهري: 1 / 249، ولسان العرب: 2 / 34) وهذا عيبٌ مكذوب على الإمام الحسن (عليه السلام) وأراد الراوي تخفيف ذلك بتشبيهه بموسى (عليه السلام) لكن دعاءه (عليه السلام): وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. وقوله: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي. لا يدل على أنه كان مصاباً بالفأفأة أو الرُّتة أو الرُّثة! بل يعني أن درجة انفعاله أكثر من انفعال أخيه هارون (عليهما السلام).

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد