حين تكون المعتقدات سببًا في الفشل والإخفاق
مهما قيل عن الذكاء بأنّه موروث أو هو موهبة إلهية أو أمر ثابت يتحدد وفق طبيعة الجينات المختلفة بين شخص وآخر، فلا نشك بالدور المحوري للاختيار والإرادة في تقويته وإضعافه.
بعض هذا الاختيار يرجع إلى مجموعة من الأفعال، وبعضها قد يكون له علاقة بالبيئة التي ينشأ فيها هذا الإنسان ويرضى بنمط عيشها ويتّخذها موطنًا!
ويبدو أنّ الإنسان نفسه قد يتّخذ مسارًا في حياته يؤدي به إلى إضعاف ذكائه.. هناك علاقة وطيدة بين مسار الحياة أو الطريق الذي يسلكه هذا الإنسان للوصول إلى مآربه وبين تفعيل القابليات أو إخمادها. جميع القابليات الإنسانية سواء كانت جسمانية أو عقلية أو روحية تنمو وتزدهر من خلال استعمالها في الاتجاه الصحيح. لكن ما يخفى على الكثيرين هو أنّ لأفكارنا ومعتقداتنا دورًا مهمًّا في هذا الأمر.
استعمال العقل الذي يُفترض أن ينتج أفكارًا تصبح مشاريع عملٍ وتحرُّكٍ قد يتوقف حين نعتقد بأنّه ليس من المطلوب أو اللازم أن نفكر في هذا الاتجاه أو ذاك. قضية إصلاح العالم وتبديل الأرض وتحسين الحياة الدنيا مثال بارز في هذا المجال. فقد شاع بين المسلمين وعلى مدى العصور اعتقادٌ تحوَّل إلى عاملٍ كبير للتوقُّف عن التفكير في مثل هذه الأمور المصيرية.
إذا اعتبرنا أن سرّ تفوُّق أوروبا على المسلمين يرجع إلى هذه النقطة بالذات لن نكون مبالغين. فعلى مدى قرون كان الأوروبيون يعملون على تحسين دنياهم وتطويرها والارتقاء بها بكل ما أوتوا من قوة، وبمستوًى من الجشع والاندفاع والحماس لم تعرف له البشرية مثيل؛ هذا في الوقت الذي كان المسلمون يصرّون على الاعتقاد بأنّ المطلوب منهم ليس سوى نيل ما يكفيهم منها. لم يرَ المسلمون حاجةً ماسة لتطوير الزراعة أو الصناعة أو وسائل العيش أو رفع مستوى الإنتاج بما يفوق حاجاتهم اليومية. كل ذلك كان له منشأ في عقائدهم أو رؤيتهم الكونية التي بُنيت على تصوُّراتٍ خاطئة حول الدنيا والأرض.
من الطبيعي أن ينجم عن ذلك ضعف حاد في الذكاء المرتبط بهذا المجال الحيوي. يتحول الأمر إلى ما يشبه السذاجة والحماقة! تصبح هذه البساطة محمودة ويهنأ الناس بها حين تسود. تبرز المشكلة التي سرعان ما تتحوَّل إلى كارثة حين يحصل التلاقي بين الثقافتين. بسرعة يتمكّن الأغنياء المتمكنون من السيطرة على الطيبين المكتفين. وهذا ما حصل تمامًا حين اجتاح الأوروبيون بلاد المسلمين.
إذًا يمكن الحديث هنا عن نوع من الذكاء قلّما يتم الالتفات إليه وهو الذكاء في تدبير الحياة الأرضية. لا ينشأ الذكاء في مجالٍ ما إلا من التوجُّه والاهتمام الفائق بهذا المجال. كلّما تمركز تفكير الإنسان في قضيةٍ ما، فمن المتوقَّع أن يزداد ذكاؤه فيها مع الاهتمام والاحتياج.
يوجد ذكاء آخر قد ينبثق من هذا الذكاء أو يكون ذكاءً خاصًّا، وهو الذكاء المرتبط بالصراع مع الباطل. رغم أنّ اهتمام أهل الحق وتركيز جهودهم في هذا الصراع يبدو أمرًا حتميًّا (وإلا ما كانوا من أهل الحق)، لكن قد يكون هناك عقائد وتصوُّرات راسخة تحدُّ من تفعيل ذكائهم هنا. بعض هذه العقائد قد ينشأ من مشاهدة الفارق الكبير في القدرة لصالح الباطل، والذي يجعل أهل الحق مذعنين بأنّهم لن يتمكنوا من سدّ هذه الفجوة مهما فعلوا (يقولون أنّه يفصلنا عنهم سنوات ضوئية). سرعان ما يغذّي هذا التصوُّر الاعتقاد بأنّه ليس عليهم سوى التوكُّل على الله وانتظار ما يحدث! وقد لاحظنا كثيرًا وعلى مدى العصور كيف تمّ استخدام التوكُّل للتواكل والقعود. العجز يبحث عن مبرّرات، وقد تكون بعض العقائد جاهزة لتغذية هذا المبرر.
واحدة من هذه العقائد أو الأفكار هي ما نراه في فهم الناس لواحدٍ من الشعارات الرائعة لنهضة كربلاء، والذي يعرفه كل صغير وكبير، وهو قول عليّ الأكبر لأبيه الحسين عليه السلام أولسنا على الحق، إذًا لا نبالي. حيث يتم تفسير هذا الشعار أحيانًا بطريقة سطحية لكنّها غاية في الخطورة أو.. الغباء. فيقول أصحاب هذا التفسير أنّهم لن يبالوا مهما كانت الأوضاع والظروف طالما أنّهم على حق، وحتى لو مُزّقوا تمزيقًا. علمًا بأنّ هناك فرقًا كبيرًا بين المبالاة بالمسؤوليات المُلقاة على عاتقهم والمبالاة بالنتائج. ففي الاعتقاد الصحيح يجب على المؤمن أن يبالي كثيرًا بما ينبغي أن يقوم به ويسعى لمعرفة مسؤولياته وتشخيص تكليفه بدقة، وذلك من خلال التحليل والفهم الدقيق للنتائج. فالكثير من النتائج (إن لم نقل كلّها) تُقدّم لنا توضيحات مهمّة حول المقدّمات والأفعال التي أدت إليها. والعديد من النتائج قد يحكي عن تقصير أو أخطاء كان يجب تفاديها.
ومن الصعب على المؤمن الفطِن عند تحليل هذه الرابطة القوية بين النتائج والمقدّمات أن يمر عليها مرور الكرام، حتى لو لم يكن مسؤولًا عن النتائج بمعنًى من المعاني. وبمقدار ما يكون هذا المؤمن غير مبالٍ بما ستؤول إليه الأمور، يكون مباليًا بما ينبغي أن يقوم به. وإحدى طرق المبالاة الشديدة بالتكليف والمسؤولية تكمن في تحليل النتائج والتفكُّر العميق فيها.
أجل، في مثل هذا الصراع هناك العديد من العوامل أو العناصر التي تخرج من دائرة قدرة المؤمن وسيطرته؛ لكن هذا لا يعني أنّ إرادته لا يمكن أن تتفوّق على مثل هذه العناصر الخارجية. ولأجل ذلك، يبقى تفكيره مشغولًا في تحليل مدى تأثير دوره على صعيد حصول النتائج والآثار.
في عالمٍ يتم تحديد مصير المؤمنين النهائي اليوم، يجب على أهل الحق أن يراجعوا كل أفكارهم واعتقاداتهم التي ساهمت في إضعاف ذكائهم الذي كانوا بأمس الحاجة إليه لمواجهة أهل الباطل والتفوُّق عليهم. فمهما كان تفوُّق المجرمين على صعيد القدرات المادية، فإنّ الذكاء والفِطنة والحنكة والتخطيط المُحكم يمكن أن يمنحهم من القدرة ما يجعلهم قادرين على إحباط المؤامرات الشيطانية والمساعي الإجرامية.
حين نعتقد بدور الذكاء الحاسم ونوجّه عقولنا بالاتجاه المطلوب ونحن نؤمن بأنّنا كلما أصبحنا مبالين سنزداد ذكاءً وفطنة، فمن المتوقَّع أن تنفتح أمامنا الآفاق والأبواب التي لا يمكن أن تخطر على قلب بشر.
الشيخ جعفر السبحاني
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد جعفر مرتضى
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
عدنان الحاجي
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
الدين والعقل ومذهب التفكيك بينهما
لوازم الأنس الإلهي (1)
الأرض في القرآن كرويَّة أم مسطَّحة؟
ليس كمثله شيء
إضعاف الذّكاء مسؤوليّة من؟
الاثنا عشريّة وأهل البيت عليهم السلام (3)
العوامل المساعدة على انتصار الإسلام وانتشاره (3)
العقل بوصفه اسمًا لفعل (1)
مسؤوليتنا في زمان صاحب الزمان
الغاية من طلب سليمان ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده