...... وهذا الجواب يحدّد لنا سلوك الحسين في حياته كلّها، ولا يدع قولاً لقائل، وإنّه يسير بأمر اللّه، وعلى سنّة جدّه محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فلقد أوقع النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله صلح الحديبية مع مشركي مكّة بأمر اللّه، ومحا كلمة بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، ومحمّد رسول اللّه من كتاب الصّلح بأمر اللّه «1»، ورضي أبوه بالتّحكيم يوم صفّين بأمر اللّه «2»، وصالح أخوه الحسن معاوية بأمر اللّه «3»، ونهض هو نهضته المباركة بأمر اللّه، إنّ الّذين يعترضون على نهضة الحسين لا يفسرون الأشياء تفسيرًا واقعيًّا، ولا تفسيرًا دينيًّا، وإنّما يفسرونها تفسيرًا ذاتيًّا وشخصيًّا محضًا لا يمت إلى العلم والدّين بسبب، ولا ينظرون إلى حكمة اللّه، وحجته البالغة: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) «4».
لقد بيّن سيّد الشّهداء كلمة اللّه، ودعا إلى الحقّ، وحذّر المخالفين من عاقبة الظّلم، والطّغيان، فمن خطبة له يوم الطّفّ: «فسحقًا لكم يا عبيد الأمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونقثة الشّيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب، ومطفئي السّنن، ويحكم هؤلاء... !، وعنّا تخاذلون، أجل واللّه، الخذل فيكم معروف، وشجت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، وثبتت عليه قلوبكم. وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث ثمرة: شجي للناظر، وأكلة للغاصب.
ألا وإنّ الدعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين بين السّلّة والذّلّة، وهيهات منّا الذّلّة، يأبي اللّه لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام.. «5». أما واللّه لا تلبثون بعدها إلّا كريثّما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرّحى، وتقلق قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) «6»؛ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) «7».
وقال الحسين، حين بلغه مقتل ابن عمّه مسلم: «وأيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسنّهم اللّه ذلًّا شاملاً، وسيفًا قاطعًا» «8».
ليس هذا القول تنبأ بالصّدفة، وأخذًا من مجرى الحوادث. كلّا، وإنّما هو كما قال الإمام عهد من اللّه سبحانه إلى نبيّه محمّد، ومنه إلى أمير المؤمنين، ومنه إلى الإمام الشّهيد، وقد صدق التّأريخ ذلك، وما نقص منه شيء، فلم يلبث قاتلو الحسين عليه السّلام حتّى دار الزّمن بهم دوراته، وضربهم بضرباته.
لقد دعا نبيّ اللّه يحيى إلى الواحد الأحد، فقتله جبّار أثيم، وأهدى رأسه بطست إلى بغي «9»، ودعا الحسين إلى الحقّ والعدل، فقتله الطّغاة، وأهدوا رأسه إلى يزيد اللّعين، وقتل زكريّا وغيره من الأنبياء، وهم يبشرون وينذرون، فإذا كان الحسين قد أخطأ في استشهاده من أجل الحقّ، والعدل فقد أخطأ إذن الأنبياء، والأولياء، والمصلحون الّذين قتلوا، وشردوا في سبيل اللّه، وإعلاء كلمة الحقّ، وإلقاء الحجّة على المبطلين.
قال عليّ بن الحسين: «ما نزل أبي منزلاً، أو ارتحل عنه في مسيره إلى العراق إلّا وذكر يحيى بن زكريا». وقال يومًا «من هوان الدّنيا على اللّه أنّ رأس يحيى بن زكريّا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل... » «10».
ذكر الحسين يحيى للشّبه بين الاثنين، فلقد أهديّ رأس الحسين إلى بغي من بغايا الأمويّين الّذين كانوا أشرّ، وأضرّ على العرب، والمسلمين من صهاينة هذا العصر. نكث يزيد رأس الحسين بالخيزران عنادًا للّه ورسوله «11»، ولأنّ في هذا الرّأس الشّريف علوم القرآن الكريم، والرّسول العظيم.
أيهدى إلى الشّامات رأس ابن فاطم
ويقرعه بالخيزرانة كاشحه
وتسبى كريمات النّبيّ حواسرًا
تفادي الجوا من ثكلها وتراوحه
يلوح لها رأس الحسين على القنا
فتبكي وينهاها عن الصّبر لائحة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في سنة خمس للهجرة خرج النّبيّ من المدينة إلى مكّة في ناس من أصحابه يريد العمرة، فمنعه المشركون من دخولها، ثمّ وقع الصّلح بينه وبينهم على أن يترك العمرة هذه السّنة إلى السّنة القادمة فيدخل مكّة بلا سلاح، وأمر النّبيّ عليًّا أن يكتب كتاب الصّلح، فكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم: هذا ما قاضى عليه محمّد رسول اللّه، فأبى المشركون إلّا محو البسملة والشّهادة لمحمّد بالرّسالة، فقال النّبيّ للإمام: امح. فقال الإمام: إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النّبوّة، والتفت إلى مندوب المشركين، وقال له: أنّه رسول اللّه رغم أنفك، فتولى النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله المحو بنفسه. انظر، سنن التّرمذي: 5 / 298 ح 3799، الفضائل لأحمد: 2 / 649، مسند أحمد: 1 / 155، المستدرك للحاكم: 2 / 137، تأريخ الطّبري: 4 / 48، مروج الذّهب: 2 / 404.
(2) لقد تكلّم الشّارحون عن حرب الخوارج، ومروقهم، وأطال المؤرخون الحديث عن أحوالهم، ووضع فيهم العديد من المؤلفات، ومن أحبّ معرفة التّفاصيل فليرجع إليها، وإلى أقوال شارحي النّهج... وغرضنا الآن أن نشير إلى موقف أمير المؤمنين عليه السّلام منهم، ويتلخص بأنّه حاول جهد المستطاع أن لا يهيجهم في شيء. ومن جملة ما قال لهم: «ألم أقل عند رفع المصاحف: إنّ معاوية ورهطه ليسوا بأصحاب دين، ولا قرآن، وإنّما هم يكيدون، ويخدعون، ويتّقون حرّ السّيف؟. فأبيتم إلّا إيقاف القتال، والكف عنه، وإلّا التّحكيم، وإلّا الأشعريّ.. فرضيت مكرهًا خوف الفتنة، ورضوخًا لأهون الشّرين.. وأيضًا قلت لكم بعد التّحكيم: أخذنا عليهما ألّا يتعدّيا القرآن فتاها عنه، وتركا الحقّ، وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما فمضيا عليه»؟.
انظر، نهج البلاغة من كلام له عليه السّلام رقم (127)، البداية والنّهاية: 9 / 339، الاحتجاج: 2 / 58، الإرشاد: 2 / 165، أنساب الأشراف: 2 / 357، الأخبار الطّوال: 209، تأريخ ابن خلدون: ق 2 / ج 2 / 177، ينابيع المودّة: 2 / 20 - 21، وقعة صفّين: 517، الإمامة والسّياسة: 1 / 168، الكامل لابن الأثير: 2 / 404.
(3) اختلف المؤرّخون اختلافًا كثيرًا فيمن بدر لطلب الصّلح، فابن خلدون في تأريخه: 2 / 186 ذهب إلى أنّ المبادر لذلك هو الإمام الحسن عليه السّلام حين دعا عمرو بن سلمة الأرحبي وأرسله إلى معاوية يشترط عليه بعد ما آل آمره إلى الانحلال، وقال ابن الأثير في الكامل: 3 / 205 مثل ذلك؛ لأنّ الإمام الحسن عليه السّلام رأى تفرّق الأمر عنه، وجاء مثله في شرح النّهج لابن أبي الحديد: 4 / 8.
وأمّا ابن أعثم في الفتوح: 2 / 292 قال: ثمّ دعا الحسن بن عليّ بعبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم وهو ابن أخت معاوية فقال له: صرّ إلى معاوية فقل له عنّي: إنّك إن أمنت النّاس على أنفسهم... وقريب من هذا في تأريخ الطّبري: 6 / 92، والبداية والنّهاية: 8 / 15، وابن خلدون: 2 / 186، وتأريخ الخلفاء: 74، والأخبار الطّوال: 200، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 192.
أمّا الفريق الآخر فقد ذكر أنّ معاوية هو الّذي طلب وبادر إلى الصّلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمّنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد، كما ذكر الشّيخ المفيد في الإرشاد: 2 / 13 و 14 وصاحب كشف الغمّة: 154، ومقاتل الطّالبيّين: 74، وتذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 206 ولكننا نعتقد أنّ معاوية هو الّذي طلب الصّلح، وممّا يدل على ذلك خطاب الإمام الحسن عليه السّلام الّذي ألقاه في المدائن وجاء فيه: ألا وإنّ معاوية دعانا لأمر ليس فيه عزّ ولا نصفه... انظر، الكامل في التّاريخ: 3 / 205، وتأريخ الطّبري: 6 / 93.
(4) الأنفال: 42.
(5) انظر، تأريخ الطّبري: 5 / 425 - 426 طبعة سنة 1964 م، الكامل في التّأريخ: 3 / 287 - 288.
(6) يونس: 71.
(7) هود: 56.
(8) انظر، الفتوح لابن أعثم: 5 / 79، مقتل الحسين عليه السّلام للخوارزمي: 1 / 226، مثير الأحزان: 46، أعيان الشّيعة: 1 / 595، اللّهوف في قتلى الطّفوف: 29.
(9) انظر، الفتوح لابن أعثم: 5 / 42 مقتل الإمام الحسين: 1 / 192، اللّهوف في قتلى الطّفوف: 12.
(10) انظر، مستدرك الحاكم: 2 / 290 و: 3 / 178، كنز العمّال: 12 / 127 ح 34320، فيض القدير: 1 / 265، تفسير القرطبي: 10 / 219، الدّر المنثور: 4 / 264، تأريخ ابن عساكر: 14 / 225 و: 64 / 216، بغية الطّلب في تأريخ حلب: 1 / 93، تأريخ بغداد: 1 / 152.
(11) انظر، سنن التّرمذي: 5 / 659، موارد الظّمآن: 1 / 554، مسند أبي يعلى: 5 / 228، المعجم الكبير: 3 / 125 و: 5 / 206 و 210، تحفة الأحوذي: 10 / 191 و 307، سير أعلام النّبلاء: 3 / 261 و 315 و 320، تهذيب الكمال: 6 / 434، تأريخ واسط: 1 / 220، فضائل الصّحابة لأحمد: 2 / 783، تأريخ الطّبري: 3 / 300، الإتحاف بحبّ الأشراف الشّيخ عبد اللّه بن محمّد بن عامر الشّبراوي: 152، بتحقّيقنا.
حيدر حب الله
الشيخ محمد صنقور
السيد عبد الأعلى السبزواري
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد منير الخباز القطيفي
السيد جعفر مرتضى
عبدالله طاهر المعيبد
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
كيف نستفيد من عاشوراء؟ (1)
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (2)
خطوة إلى الأمام تجاه وضع (نظرية كلّ شيء)
يوميّات الإمام الحسين (ع) في كربلاء (1)
هل أقدم الحسين (ع) على التّهلكة (2)
تلبيات مشرعة للرّمال والسّيوف
نحيب على تراب النّبوّة
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (1)
نتائج ثورة عاشوراء وآثارها