الشهيد مرتضى مطهري ..
من المسائل الاجتماعية العريقة أنّه: ما هي العوامل المؤثّرة في تحقّق الحياة الاجتماعية للإنسان؟ هل هو اجتماعي بالفطرة، أي أنّه خُلق منذ خلق وهو جزء من كل وجُبل على الانجذاب نحوه، أم أنّه لم يُخلق اجتماعياً وإنّما اضطرّته إلى ذلك العوامل الخارجية فأُجبر على الحياة الاجتماعية، فهو بطبعه يميل إلى الحرية ورفض كل القيود التي يستلزمها التمدّن والعيش الاجتماعي، ولكنّه أدرك بالتجربة أنّه لا يتمكّن من إدامة الحياة وحيداً فريداً، وأنّه لا بد من الرضوخ للقيود التي تستلزمها الحياة مع الآخرين فاستسلم لها، أم أنّه وإن لم يكن مجبولاً على الحياة الاجتماعية إلاّ أنّه لم يضطر إليها أيضاً، أو أنّ الاضطرار ليس هو العامل الوحيد بل الإنسان بحكم العقل الفطري وتقديره ومحاسباته وصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الحصول على حظ أكبر من مواهب الطبيعة لا يمكن إلاّ في ظل التعاون مع الآخرين ومن هنا اختار هذه المشاركة والتعاون؟
والخلاصة : أنّ السؤال الوحيد هو أنّ الحياة الاجتماعية للإنسان، هل هي فطرية أم اضطرارية أم اختيارية؟
فبناءاً على النظرية الأُولى: تكون الحياة الاجتماعية من قبيل الحياة الزوجية؛ حيث يعيش كل من الرجل والمرأة كجزء من كل حسب الفطرة، وقد جُبلا على الانجذاب نحو هذا الكل. وبناء على النظرية الثانية: تكون الحياة الاجتماعية من قبيل المعاهدات، التي تضطر إلى عقدها الدول التي لا ترى لها بالانفراد إمكان المقابلة مع العدو المشترك، فلابد لها من نوع من التعاون والتعاهد فيما بينها. وبناء على النظرية الثالثة، تكون الحياة الاجتماعية من قبيل عقد الشركة بين تاجرين يتعاونان في مؤسسة تجارية، أو صناعية، أو زراعية؛ لكسب كميّة أكبر من المال.
والعامل الأساس بناء على النظرية الأُولى: هو الطبع الفطري للإنسان. وبناء على النظرية الثانية: أمر خارج عن وجود الإنسان. وبناء على النظرية الثالثة: هو القوّة المدركة والمقدرة للإنسان.
والتمدّن بناء على النظرية الأُولى: غاية عامة طبيعية يتوجّه إليه الإنسان بمقتضى فطرته، لكنّه بناء على النظرية الثانية أمر اتفاقي وعرضي، فهو غاية ثانوية باصطلاح الفلسفة، وهو بناء على النظرية الثالثة غاية يبتغيها الفكر وليس غاية طبيعية.
ثم إنّ المستفاد من القرآن الكريم أنّ التمدّن والعيش الاجتماعي ممّا جُبل عليه الإنسان في أصل الخلقة، قال الله تعالى في سورة الحجرات:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
فالآية الكريمة كما تشتمل على درس أخلاقي، وهو جعل التعارف غاية للتشعب والقبلية تنبيهاً على منع التفاخر بذلك، تشير أيضاً إلى النكتة الاجتماعية في كيفية خلقة الإنسان، حيث بيّن أنّه خلق على وجه ينتهي إلى تشكّله إلى أُمم وقبائل مختلفة، والانتساب إلى الأُمم والقبائل يفيد معرفة الأشخاص وتمييزهم بعضاً عن بعض، وهو شرط أساسي في الحياة الاجتماعية. فلولا هذا الانتساب الذي هو الوجه المشترك بين الأفراد من جهة، ووجه الامتياز من جهة أُخرى لم يمكن معرفة الأشخاص وتمييزهم، وبالنتيجة لم يمكن تشكيل الحياة الاجتماعية المبتنية على روابط الأفراد. فالانتساب إلى الأُمة والقبيلة وغيره من الخصائص والمميّزات الطبيعية: كالاختلاف في اللون والشكل والحجم، تعتبر أساساً في الهوية الشخصية للفرد، إذ لولا الاختلاف في هذه الأُمور وفي الانتساب؛ لكان أفراد الإنسان كالمنتوجات المتحدة الشكل من مصنع واحد، حيث لا يمكن تمييزها بعضاً عن بعض. وإذا كان كذلك، لم يمكن تشكيل التمدّن البشري، الذي يتوقّف على ارتباط الأفراد وتبادل الآراء والأفكار والمعاملات. إذن فالانتساب إلى الشعوب والقبائل له حكمة وغاية طبيعية، وهو التمييز ومعرفة الأشخاص، فلا ينبغي أن يجعل ذلك مبرّراً للتفاخر والاستعلاء، فإنّ أساس الكرامة والشرف هو التقوى.
قال الله تعالى في سورة الفرقان / 54: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً)، هذه الآية الكريمة تصرّح أيضاً بأنّ الروابط النَسبيّة والسببيّة بين البشر، التي هي أساس الارتباط والتعارف، من الأُمور التي جُعلت في أصل خلقة البشر لغاية طبيعية عامة.
وقال تعالى في سورة الزخرف / 32: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
الآية الكريمة وردت ردّاً على استبعاد المشركين إعطاء وسام النبوّة لمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فقال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ)، استفهام إنكاري بالنسبة إلى تقسيم المواهب الطبيعية بين الخلائق، ويجيب تعالى بأنّ وسائل العيش من الاستعداد الذاتي، والأسباب الطبيعية مقسومة على الخلق من قِبله تعالى ليسخر بعضهم بعضاً في رفع حوائجه، وبذلك يصبح الجميع في خدمة الجميع، ورحمة ربّك أي موهبة النبوّة خير ممّا يجمعون.
وقد بحثنا عن هذه الآية بإسهاب في مباحث التوحيد (فصل المعرفة إلى أساس التوحيد) فلا نكرّر، وإنّما نشير هنا إجمالاً إلى أنّ مفاد الآية الكريمة: أنّ الناس ليسوا سواسية من حيث الإمكانات والاستعداد الذاتي، إذ لو كانوا كذلك وكان كل أحد واجداً لما يملكه غيره وفاقداً لما يفقده غيره؛ لم تكن بينهم بالطبع حاجة البعض إلى البعض، فلم يتحقّق الترابط والخدمات المتقابلة، فأفراد الإنسان مختلفون من حيث القابليات والإمكانيات الجسمية والنفسية والعقلية والعاطفية، وقد فضّل الله بعضهم على بعض في بعض المواهب بدرجات، وربّما يفضّل البعض الآخر على هذا البعض الفاضل في مواهب أُخرى، وبذلك أصبح كل فرد محتاجاً إلى الآخرين ومنساقاً إلى عقد الترابط معهم، وعلى هذا الأساس بُنيت الحياة الاجتماعية المترابطة. فهذه الآية تدل أيضاً على أنّ التمدّن البشري أمر فطري طبيعي، وليس متمحّضاً في الاختيار والمعاهدة ولا في الاضطرار والإلجاء.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة