خطورة تحكُّم الأنا بالنفس
الأنانيّة مرض أخلاقيّ يُصيب الإنسان حينما يُطلِق العنان لِغريزة حُبّ الذات والأنا العمياء. ولا يخفى أنّ خطر هذه الغريزة قد يَفوق خطر أيّةِ غريزة أخرى، لأنّها تستخدم باقي الغرائز لإشباع نفسها، فتتفجّر غريزة الجنس وغريزة السيطرة وغريزة الغضب... وعلاجها قد يؤدّي إلى الحدّ مِن طغيانِ الغرائز الأخرى في الإنسان، إذ إنّ التطرّف في حبّ الذات -والذي يُسمّى الأنانيّة أو عبادة الذات- مَرَض مُسبِّب لأمراض أخرى، فأينما وُجِدَ الأنانيّون تَحوَّلوا إلى أزمة ومُشكلة.
ومِن الواضح أنّ هذا السلوك المَرَضيّ مِن مصاديق عبادة الذات التي تَحدَّث عنها القرآن في خطابه مع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله): ﴿أَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيۡهِ وَكِيلًا﴾[1]. فَأزمة الأنانيّة وعبادة الذات قَضيّة نفسيّة مِن أهمّ القضايا في حياة الإنسان وأخطرها، لأنّ معظم مَشاكل الإنسان وأزماته النفسيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وحالات الصراع والخلافات في المجتمع والأُسَر والجماعات البشريّة، تعود إليها. غيرَ أنّ حبَّ الذات غريزة مركوزة في أعماق الإنسان، وهو أمرٌ مشروع عندما يكون التعبير عنه صحِّيّاً وسِلميّاً. فَمِن حقّ الإنسان أن يحبّ الخير لنفسه، ويُحقِّق لها التفوّق والمقبوليّة لدى المجتمع، غير أنّه يتحوّل عند بعض الأفراد إلى حالة مَرضيّة وعدوانيّة، فَيستحوذ على كلّ شيءٍ لِئَلّا يرتقي الآخر إلى مستوى منافسته أو التفوّق عليه، وَتتحوّل الأنانيّة إلى عداءٍ وانتقام يصلُ إلى حدِّ القتل والافتراء والتخريب، عندما يشعر الأنانيّ بِتَفوّق الآخر عليه اجتماعيّاً أو اقتصاديّاً أو عِلميّاً أو...
مراتب الأنانيّة ومراحلها في النفس
للأنانيّة ثلاث مراتب في النفس:
المرتبة الأولى: التمحوُر حول الذات؛ بأن يعيش الإنسان لِذاته فَحسب، فَيوظّف طاقاته وإمكاناته وجهوده كلّها لِصالحها، وَيحقّق الرفاهية لحياته الخاصّة، ويرفض أن يَصرف وَلَو جزءاً صغيراً من طاقاته في خِدمة الآخرين. ومعنى أن يعيش الإنسان لِذاته هوَ أنْ يُوفّر لها أكبر قَدرٍ ممكن مِن اللذّات والشهوات والمصالح، فَيَعيش في دائرة مُغلَقة، هي دائرة الأنا؛ أي أنْ يعمل لِيعيش، ويعيش لِيَعمل.
وَقد تتحوّل ذاتُ الإنسان الأنانيّة إلى قيمة عُليا، يَقيس بها كلّ شيء، فالأنانيّ يُخضِع الأفكار والرؤى التي تُعرَض عليه إلى مقاييس المصلحة الشخصيّة. والأمر الخطير في تقديس الذات هو تحوُّل الذات إلى إله يُعبد، كما يقول القرآن الكريم: ﴿أَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ﴾[2].
المرتبة الثانية: ظهور الأخلاق والصفات الأنانيّة، إذ تَنتج عن عبادة الذات مجموعة مِن الرذائل الأخلاقيّة، منها:
1. التعصُّب: يُصابُ الإنسان الأنانيّ الذي يتمحور حول ذاته -تلقائيّاً- بمَرَض التعصُّب؛ التعصّب للرأي، وللجماعة، ولكلِّ شيء يمتّ إليه بِصِلة، وإنْ كان رأيه خاطئاً، أو كانت جماعته تسير في طريق خاطئ، ومَهما كان رأي الطرف المقابل صحيحاً وواضحاً.
2. التكبُّر: أن يرى الإنسانُ نفسه أفضل مِن الآخرين، بِسَبب الاعتبار المضخَّم لها.
المرتبة الثالثة: السعي إلى إسقاط الآخرين، يتصوّر الأنانيّ أنَّ الآخرين سَببَ عدم حصوله على المزيد مِن مستلزمات حُبّ الذات، ويَرى بَقاءَه ورفاهيّته وبروزه ونجاحه في إسقاط الآخرين وتحطيم شخصيّاتهم، فَيحاول أن يبني لنفسه شخصيّة ووجاهة على أنقاض الآخرين. ويُلاحَظ في سلوكه المظاهر الآتِية:
1. تضخيم سلبيّات الآخرين
2. الحسد: وهو مَظهر يُصاحبُ الأنانيّ ويدفعه إلى حَسد الآخرين وتمنّي إزالة النعمة عنهم.
3. وَضع العقبات والعراقيل أمام الآخرين: حينما يَعجزُ الأنانيّ عن إحداث الفشل في مسيرة الآخرين وتحطيم إنجازاتهم ومكاسبهم عن طريق الحسد، فإنّه يلجأ إلى وضع العراقيل والعقبات في مسيرتهم، فَتتحوّل مهمّته في الحياة مِن تطوير ذاته إلى تحطيم الطرف المقابل.
كيفيّة تصوير القرآن ظاهرة الأنا وعبادة الذات
إنّ مظاهر التعبير عن عبادة الذات والأنانيّة كثيرة، وقد توعّد الله عِباد الذات وأصحاب الأنا بالعذاب الشديد في مواضع عديدة، مِنها:
1. الأنا الشيطانيّة والسجود لآدم
تُحدّثنا هذه الآية عن خطورة الأنانيّةِ وَما سبّبَته للشيطان الرجيم في عِصيان الله تعالى والتمرُّد على أوامِره؛ قال تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡر مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّار وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِين - قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ﴾[3]، فاقترنَ، إذاً، العذاب -المتمثّل في طَرْد إبليس مِن الجنّة- بالأنانيّةِ أُمِّ المعاصي وأوّلها. وفي قوله: ﴿قَالَ أَنَا۠ خَيۡر مِّنۡهُ﴾ إجابةٌ منه -لعَنَه الله- وَهي أوّل معصية عُصِي بها الله سبحانه؛ أي إنّ المعاصي جميعها ترجع -بِحَسب التحليل- إلى الأنانيّة ومنازعة الله سبحانه في كبريائه الذي لا شريكَ له فيه.
2. الأنانيّة في قصّة قارون
قال تعالى في سورة القصص: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ - قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ﴾[4]، وهي تُفيدنا أنّ قارون كان غنيّاً، لديه الكثير مِن الكنوز والأموال، وكان يعيش حالة مِن الزهو والسرور المفرط والتعلّق بالدنيا والانغماس فيها، ولم يأخذ الآخرة بِعَين الاعتبار في سلوكه وقراراته؛ ما أدّى إلى الفساد في الأرض. والمشكلة التي عانى منها قارون ومَن حَذا حذوَه هي مشكلة الأنا التي جَعَلَته يَقول إنّه حصل على هذه الأموال بجهدِه الذاتيّ وقدراته العلميّة، بعيداً عن اللطف والتوفيق الإلهيّ، وَلَو عاشَ حالة الارتباط بالله تعالى والاعتراف بِفَضله عليه لَما قال ذلك ولَما طغى. وَماذا كانت عاقبة قارون؟ يجيب عن هذا السؤال القرآن الكريم: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَة يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ﴾[5].
3. الأنانيّة في القضايا الأُسَريّة
قال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرا﴾[6]. والشُّحّ هو البُخل؛ أي إنّ الشحّ مِن الغرائز النفسانيّة التي جَبلها الله عليها لِتَحفظ بها مَنافعها وتَصونها من الضياع، فَما لكلِّ نفسٍ مِن الشحِّ حاضرٌ عندها. فالمرأة تَبخل بما لها مِن الحقوق الزوجيّة، كالكسوة والنفقة والفراش والوقاع، والرجل يبخل بالموافقة والميل إذا أحبَّ المفارقة وكَرِهَ المعاشرة، ولا جناح عليهما، حينئذٍ، أن يُصلحا ما بينهما، بإغماض أحدهما أو كِلَيْهما عن بعضِ حقوقه. فَنُلاحظ أنّ هذا الشحّ في عدم الاعتراف بحقوق الآخر مُنطلِق مِن حبّ النفس والأنانيّة التي تساهم في هدم قواعد الأُسرة، حينما يُفكّر الرجل بحقوقه وينسى حقوق زوجته، وتفكّر الزوجة بمصلحتها وتنسى حقوق زوجها. فتُمثّل هذه الأنانيّة عقبة في طريق الإصلاح بين الزوجَيْن؛ ما يعني فَشَلهما واحتمال الطلاق، بِما يحمل مِن مآسِيَ وآثارٍ سلبيّة على الأطفال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ - مركز المعارف للتأليف والتحقيق)
[1] سورة الفرقان، الآية 43.
[2] سورة الفرقان، الآية 43.
[3] سورة الأعراف، الآيتان 12 و13.
[4] سورة القصص، الآيات 76 و78.
[5] سورة القصص، الآية 81.
[6] سورة النساء، الآية 128.
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد صنقور
د. سيد جاسم العلوي
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
عبدالله طاهر المعيبد
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
النّدم (1)
حبّ الذّات
الأنا وعبادة الذات
معنى قوله تعالى:{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}
نظريّة المعرفة عند كارل بوبر (3)
تأثير العلاقات الاجتماعيّة في السّلوك الاستهلاكي
(فزع البيدر) ديوان شعريّ للشّاعر إبراهيم الحاجي
(حكايا بلقيس) أناشيد شعريّة للأطفال بقلم الشّاعر علي النّحوي
الاستعداد للسفر الطويل في مواعظ الإمام الحسن (ع)
الشّباب والعافية