مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ شفيق جرادي
عن الكاتب :
خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت. تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.

لمن يكتب الفيلسوف؟

لطالما قيل: إن الفيلسوف هو ملتقط لحقيقة ما، وإنه أكثر الناس قدرة على سبر الوجود والصيرورة والحياة، وبالعموم سبر الحقائق والمعنى، فهل هذا يعني أنه مجرد مكتشف للحقيقة أو كاشف عن أسرارها؟ ألا يقتضي ذلك الاعتراف المسبق بوجود ما واجهه الفيلسوف، وبالتالي اكتشف مضامينه؟

 

لكن غير الفيلسوف أيضًا لديه تسليم بالوجود ولو على مستوى الانطباع والألفة. وهذا يعني أن ميزة الفيلسوف ليست في معرفته الوجود والحقيقة، بل هي بالأصل ترتبط في طريقة نظرته ومجالاته، وخروجه عن المألوف فيما يستكشف من خلال ما يترتب عن الدهشة القلبية أو العقلية التي تنتابه، فتولد عنده السؤال، ومن الدهشة والسؤال الباحث عن مضمون الأشياء وتصنيفها وتمييزها تبدأ الرحلة. ومن دون هذه الخصوصية لا تتوفر على فلسفة أو فيلسوف، وإلا في المقدمات وعند الخروج عن المألوف قد نستكمل السير مع الفنان والشاعر والأديب والرسام وغيرهم.

 

وهذا يعني أن ما بعد الدهشة وإجراءات الاستكناه والتعبير يأخذ التصنيف مجاله بين هذا النحو من الوعي الفلسفي، أو ذاك الوعي الفني أو غيرهما من صنوف الإبداع؛ والإبداع هو مستوى من التمايز يعبر عنه أهل الفلسفة بالخاصة وخاصة الخاصة. والخاصة هم نخبة قليلة جدًّا من الناس يغرقون أنفسهم عن عامة الناس وأكثرهم. فهم ينظرون إلى الأمور كما لا ينظر الناس، ويثيرون من أسئلة وإشكالات لا تعتني بها الناس، ويقررون أمورًا ويتحدثون عن مسائل لا يفهمها الناس، بل إن الناس غالبًا لا تكترث لها.

 

سأطرح هنا مثالًا: لو جاء كانط يومًا واجتمع بمن يسميهم الفيلسوف بالعامة، وقال لهم سأخبركم عن العقل وكيف يشتغل، وفصّل لهم الفارق بين القبليات والبعديات، وطرح لهم المقولات التي قسمها إلى أربع، ووضع في كل خانة حالات ثلاث ليوصل العدد إلى اثني عشر مقولة، ثم جرّد الحديث حول الفارق بين الفاهمة وموقعها من الحدس والحس، ووصل إلى العقل ونطاق اشتغاله، ثم انتهى القول هكذا أنتم تفكرون، من المؤكد أنه لن يلقى منهم سوى الازدراء، فما هم عليه من تفكير لا يلمسون فيه شيئًا مما بيّنه كانط لهم، بل لوصمه بعضهم بالمهرطق.

 

والسبب أن العقل واشتغالاته التي بيّنها كانط كانت نابعة من نقده لخبرته العقلية، وبأفضل الأحوال لاطلاعه على تفكير من يشابه كانط في أفقه المعرفي والعقلي.

 

عليه، فالفيلسوف كاشفٌ عن نفسه أو عن نمط من التفكير يشبهه، أما الناس بما هم فلم يفتح الفيلسوف صفحات إدراكهم وتعقلاتهم، بل أكاد أقطع أنه ينبو بنفسه عن التنظير لهم. إلا في حالة واحدة حينما ينتهج منهج التجربة والتأمل في حياة البلاد والعباد، ويدوّن ملاحظاته وما وصل إليه من نتائج تكاد تكون مشتركة بينهم، رغم تغاير أصقاعهم وبيئاتهم، بل وأزمنتهم، إلا أن هؤلاء المتنظّرين غالبًا ما يصدرون عن خلفيات مسبقة عندهم، أو عن سبب ما دعاهم للالتفات إلى خصوصية هنا أكثر من خصوصية هناك عند شرائح الناس، والأهم أنهم يبدأون من الظاهر البسيط، كما يبدو لهم، والعميق المؤسِّس عند الأفراد والجماعات لطالما يكون مغلّفًا ومغلقًا عن التصريح، وبكل حال، فإن تتبع المتفلسف لوعي الناس وإدراكاتهم وكيفية اشتغالاتها، لا يعود إليهم حينما يصل ويقرر ملاحظة ما أو فرضية، بل هو يذهب لشركائه في الأفق المعرفي من أهل الخاصة وخاصة الخاصة.

 

ويبقى الإنسان العادي خارج مرمى النظر والتقرير، وفي أفضل الأحوال حقلًا من حقول تجارب أهل الاختصاص من فلسفة واجتماع وأنثروبولوجيا وغيرها…

 

هذا الوضع، يجعلنا نعتبر أن كل فيلسوف إنما يمارس اكتشاف فرادته أو خصائص المنتسبين معه إلى هذه الجماعة والمدرسة الفلسفية بعينها، وإلا فإن من وصل إلى وجوب الاعتماد على البرهان العقلي وآليات ذلك من خلال بحثه في خصائص ما يسميه بالعقل ومندرجاته قد لا تتوافق البتة مع فيلسوف ذوقي للبرهان عنده مكانه، لكن آليات اشتغال القلب وتدفق المعرفة عليه تختلف عن ذاك البرهاني البحت،.. حتى لكأننا مع نموذجين من الناس، وكل فئة تدعو لكونها تمثل الواقع والحقيقة.. ومرةً أخرى يبقى العادي من الناس خارج البحث والاهتمام. بمعنى أن الكلمة الفصل ليست له، بل وليست حوله إنما هو الحالة التي يُطبّق عليها الفيلسوف رؤاه، والأخلاقي مسالكه، والتربوي أنظمة ومفادات دراساته، وهكذا يكون العادي هو الإنسان الأغور إنسانية، لكنه الكائن الذي ما زال أهل الخاصة من فلاسفة وغيرهم يطوِّقون وينمّطون شخوصه وحياته ليوغلوا أكثر في استعباده.

 

إذن، الفيلسوف حينما فكّر وتأمّل فمن نفسه ولنفسه، وإذا نظّم نسقًا، أو كتب كتابًا، بل ورسالة فإنما يكتب لنفسه أحيانًا كما حصل مع أرسطو، أو يكتب لمن يقارب أفقه المعرفي كما يفعل كثير من الفلاسفة عندما يثنون على كتابهم، وينصحون بعدم قراءته ودراسته إلا لمن توفرت فيه صلاحية المشابهة للفيلسوف من فهم وإرادة معرفة، وانتساب للغة الفيلسوف، ويذهبون بعيدًا بالقول: إن إفشاء الوعي والفهم والحكمة عند غير أهلها (الإنسان العادي)، فهو كمن يضع قلادة الحكمة على رقبة حمار أو خنزير، حسب بعض تعابيرهم.

 

ولا نكاد نجانب الصواب، أن هذا الانغلاق على الذات لإنتاج وتوليد المعرفة ما هو إلا في انفصام عن الواقع، وأنه علامة ضعف وهروب وخيبة يداويها الفيلسوف غالبًا بالعزلة والخلوات.

 

إن هذه الصيغة من طبيعة الفلسفة تحاصرها بالنخبوية في الإدراك والمعرفة فلا تتعدى الأمر لما يمكن أن يصل للعادي من الناس؛ وحالها في ذلك حال العرفان والتصوف عندما يكون طريقه محصورًا بالأوحدي بعد الأوحدي، كما يعبّرون. ونحن هنا لا ننفي أهمية الوعي الفلسفي والعرفاني لكننا نشير إلى كونهما لا يصلحان للبشرية بامتدادها الذي يتواصل مع كل شرائح المجتمع الإنساني.

 

عليه، فإن الحاجة إلى مرجعية معرفية تخاطب كل عقل ونفس بشري تبقى قائمة وضرورية، وهي ما وفرته الأديان من خلال مراجعتنا للأفق المعرفي الذي يثيره القرآن القرآن الكريم في ذلك.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد