مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ شفيق جرادي
عن الكاتب :
خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت. تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.

الحياة والموت.. سوداوية أم رجاء

هل من شيء أو أمر أو حقيقة تواكب الحياة مثل الموت، في قيامنا ونومنا وعملنا، في أكلنا وشربنا، وفي كل من نشق فيه عباب تدافع الناس على مصالحهم وتجاراتهم ورزقهم، كما في حربهم وسلمهم.

 

الموت لا يغادر، يبقى كقرين للحياة لا يسفر عن وجهه. ووحدهم أصحاب العقول والقلوب من ينتبهون لهذا الخطر الهادم لكل حول وقوة ولذة، ويفهمون أنه الجرس أو المهماز الذي يرسم لنا نهاية القضية أو الفكرة أو الغاية المرحلية للعيش، “نَفَسُ المرء خطاه إلى أجله”[1].

 

لا نريد هنا الحديث عن ما بعد الموت، بل عن دلالته وما يشكّله للإنسان على مستويي الوعي، وسلوك المصير. فالموت كما الحياة يمثّلان اللحظة الأكثر مفصلية في حياتنا لمواجهة الإرادة، بالواقع الذي لا بدّ منه ولا مهرب.

 

خيارات اتجاه ما لا خيار في وقوعه وحصوله كأنهما يذكراننا بما يحفنا من حدود لمساحة الخيارات، بل وإرادة الخيار لدى الإنسان.

 

أيًّا كانت الحياة بالنسبة إليك فأنت الآن حي، وسيّان تؤمن أنها إرادة الله أم هذا ما جناه عليك أبوك، كما عن المعريّ، فأنت الآن حيّ، وستكون الحياة سؤالك الأعوص، وحَبْكِ العلاقة معها سرّك الأغمض. يوميًّا نستنكر عليها، وفي كل شاردة وواردة، ونعبّر عن عدم رضانا لما فيها ولناسها، لكننا نحبها، نعشقها، درجة القلق والخوف من لحظة مغادرتها، هي نحن، وكل تعبير وكل خاصة لها هي جو ما نحن عليه. لذا، نعم في اللحظة التي تستعيدنا فكرة الموت إلى أنفسنا ووعينا، وأنه أمر لا بدّ منه تصبح اللحظة الأشد وطأً على الهواجس، وقلق الآتي، ولا نعرف من احتمالات واقعة الموت إلا احتمالات منها الفناء وهو فراغ لا تحتمله ذاتنا لحظة، أو هو استقرار أبدي في قبر الوحدة التامة التي تستشعرها النفس، أو أنه استكمال مرير لانتقال مرعب إلى عالم من الحياة يكاد أن لا يشابه حياتنا اليوم.

 

وهنا، هل نقلع عن التفكير فيه ونعيش اللحظة، رغم كل محيطنا من فَقْدٍ لأحبّاء قد ماتوا وما زالوا يغادرونا ليعيدونا إلى سطوة الموت؟ ثم ماذا نفعل بالمرض والأوبئة والألم الذي يشتد فينقلنا إلى عتبة الموت وكل ذلك فضلًا عن تقادم العمر والسير نحو الشيخوخة؟ كل ذلك إنذارات تنبهنا إلى ما لا بدّ منه من ذاك المخبوء داخل الداخل. فلا الاعتراض عليه حلٌّ، ولا تنكّره حل، بل حتى شتمه لن يقدّم في الأمر شيئًا.

 

حاول العقل المستنفر على كل ما يمثل سلطة الله أن يخطو خطوات ظنًّا منه أن الإنسان قادر على اتفاق الكوارث كما أنه قادر على معالجة فقدان الحياة فباءت النتيجة بالفشل؛ إذ الكوارث زادت، بل تعاظم بعضها من خلال تدخل الإنسان وأسباب الموت، بل وقُصر العمر أيضًا زاد رغم كل الإنجازات العظيمة للمعالجات الطبية.

 

المعالجة: يبقى الأمر الوحيد والطريق الفريد في مسألة انتهاء الموت، هو أن نتكيّف معها، أن نألفها، أن تصبح أحد المتلازمات مع كل أمر يمر علينا في حياتنا. أليست الولادة والحياة تحمل معها بذور موتها، إذا لم تراع حضوره الدائم، وأن نتدرب لمواجهته؟

 

نعم مواجهته ووفق ما نؤمن به.

 

أم أنه ملازم الحياة، فمن حقنا حين وعي الحياة أن نعيها بملازماتها، وأن ندرس هوية وإنسانية كل منا على وفق هذه المتلازمة الثنائية الطابع، الموحدة الهدف. فما الذي يحرّض مبدعًا أو فيلسوفًا مفكّرًا أو عالمًا مخترعًا على العمل بجد على الإنتاج سوى يقينه الشعوري بقصر العمر؟

 

إن كل إنجاز في حياة الدنيا هو رهن هذا الشعور العميق.

 

والأمر نفسه يمثّل عند العابد وعند الحكيم والعارف، بل وعند رب العائلة العادي الذي يريد ضمان حياة عائلته قبل موته.

 

للموت في حياتنا إذًا فضائل لا تُحصى.

 

وما الغافل البليد في حياته إلا الغافل عن هذا.

 

انطلاقًا من هنا، ليس الموت كما شبّهه بعض الشعراء والأدباء شبحًا غليظ القلب، يمر على الإنسان ويضرب بجناحه فيسقطهم في حياتهم ولحظة انبثاقهم. ليس بالأمر القائم خارجنا، هو فينا، بل هو والحياة نحن، وفي الفلسفة والحكمة الدينية ما يشكّل رؤية لهذه الحقيقة، إلا أن سبب عدم الالتفات لها يكمن أننا غير جادين في معرفة الوجود على حقيقته.

 

وفي تجارب أهل التدين، فلسفة شعائر، وعادات تنطلق من هذه الرؤية، منها:

 

معايدة المرضى على فراش الموت، وما يتركه ذلك في وعيهم.

 

زيارة القبور، وما يحصل فيها من بعض الشعائر الخاصة التي تستوجب حفر بعض التأثير في وعي الموت والحياة.

 

مراسم تغسيل الميت وتشييعه ودفنه أمام أعين الجميع، وما يُقرأ لحظتها وما يقال، أو المراسم التي تلي الدفن ،كلها أمور لافتة لمن يريد الاتعاظ.

 

أخيرًا، فكرة أن الصلة ما زالت تحمل بعض الوجوه مع الميت مما يعبَّر عنه بالصدقة النافعة لروحه وتلاوة القرآن، ومن ذلك المنامات التي تلي الدفن عند من يعرفونه أو أقاربه، وما يحفّها من أخبار وعظة يتناقلون ويحدثون من خلالها عن رغبته بالأمر الفلاني، وعدم رضاه عن أمر آخر ما…

 

بهذا القدر، وإن كان هناك فعلًا ما يمكن التوقف عنده من مثل الوصية وما تتركه من أثر نفسي، وثقافة بر الوالدين، وأن الصلة بهم والبر ينبغي أن يستمر حتى في مماتهم. لأؤكد على منبّهات فكرة مصاحبة الموت للحياة.

 

الموت – الحياة: سوداوية أم رجاء.

 

عندما تكون النظرة لماضي الحياة أنه الزمن الذي مرّ ولن يعود، وأن كل آنٍ من آنات هذا الزمان الآتي حكمها حكم ما مضى، وأن لا مشيئة خلف مشيئة الوقت الذي بمجرد انتهائه ينتهي كل شيء.

 

إذًا، لا شيء له معنى أو غاية، عندها تتسلسل تداعيات الذهن كما النفس نحو يبوسة الحياة. وعند اشتداد المرض، أو الفقر، أو الألم تبدأ الصورة السوداوية بسبب انسداد الأفق. وهذا تحوّل عند بعض المدارس الفكرية إلى مبدأ يعيد الشر والتيه والغدر إلى أصل الأيام. الأمر رهن نظرتنا للعلاقة بين الموت والحياة، رهن التربية التي انتهجناها للوفاق بين أمرين يبدوان على تضاد، لكن لم يكن للحياة أن تثرى من دون الموت. وإن كان هذا الموت المصاحب يقطع ما مر، فلا شيء قابل من زمن الحياة للعود، فما المفارقة التي يقوم بها لحظة استحكامه وإنهاء حياة فرد من الناس؟

 

المفارقة هنا هي في أن أصل الدنيا كمحل حامل للزمن، كما المكان ما عادت قابلة للعود إليها بسبب الموت والفراق النهائي، والذي يعتقد أن هوية أيٍّ من الناس هي في هذا التضاد الموت/ الحياة، وأن المعنى، بل والأثر والخصائص هو وليد هذين المتصاحبين المتلازمين قد يعي وبعمق كيانه أن احتمالية الاستمرار قائمة، بل غالبة. وهذا ما نجده عند فرق حكت قصة الإنارة على ما بعد العالم رغم أنها سكتت عن أن الله موجود أو غير موجود، فكيف الحال عند من يؤمن أن الموت والحياة جعلهما الله بلاءً يختبر ويقوى فيه الإنسان ليختبر من هم أحسن عملًا.

 

أما في ما يخص النهج التربوي لذلك، وضرورته، فليس كل من اقتنع بأمر أو وعاه استطاع أن يجعل منه نمط عيش؛ إذ شرط ذلك إرادة العمل بما علم، وثبات الصدق في الديمومة عليه ليصبح مألوفًا، إن لم نقل محببًا.

ولعلنا لا نجانب الصواب لو اعتبرنا أن أركان هذا النهج:

 

أولًا: الرجاء.

ثانيًا: الثقة بمن ترجو أو بما ترجو.

ثالثًا: مواكبة الرجاء بالخصوص عند موارد الشدة والخوف.

 

ولا بدّ من وقفة قصيرة عند النقطة الثالثة؛ الرجاء هو الأمل المفتوح على الراحة والعافية والنجاة، مبنيٌّ على أصالة الحب في علاقة الراجي بمن يرجو، وأنه يراعي أوضاع وأحوال وزلّات محبوبه، فيفسح له بالرفق والأمل. وكلما كان الوضع أكثر حساسية كان حضور الرجاء أقوى. وليس الرجاء علاقة إملاء ومطالب، أو الطلب بجزم وتحتيم. إنه صادر من قلب ووجدان يقظ، يحرّكه عاملا المحبة والإحساس بالندم العميق، وتوجهه مهابة المسؤول في لسان الطلب عند السؤال. إنه نحو من شعور انقطاع الإنسان بيننا وبين الزمان وأهله، والتمسك بمن بيده حاكمية الزمان وحكم الوجود، وهنا تأتي الثقة بمقدار الرجاء “هيهات أنت أكرم من أن تضيع من ربيته”. “هيهات ما ذلك الظن بك ولا أخبرنا بفضلك عنك”… ومنه الثبات على حسن الظن مهما اشتدت الصعاب أو كانت النتائج “فلئن أدخلتني النار لأخبرنّ أهلها بحبي لك”.

 

ثقة وثبات ينمّ عن مستوى من معرفة من نرجو، معرفة مطمئنة ثابتة قاطعة بيقين الحق، ووعوده، لقد حرّم الله اليأس على عباده حتى لا يقعوا أسرى سوداوية العيش، وبيّن لهم أن الماضي من كل عمل، محفوظ في كتاب يمثل أمامهم يوم الحشر كعنوان أن الحياة لا تنعدم بحلوها ومرّها، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأن الله معكم أينما كنتم وهو أحكم الحاكمين، وعند حسن ظن عبده به.

 

تبقى المسألة المرتبطة باعتماد الرجاء عند كل شدة وخوف مستحكم أو أفق مسدود. كُثُر هم الذي عملوا في الآونة الأخيرة على إبراز عناصر الرحمة والمحبة في الإسلام، واستبعاد عناصر الخوف والتخويف، لأسباب لسنا الآن في معرضها.

 

إلا أن بعض هؤلاء قد يكون معتقدًا أنه بهذا يتقرب إلى أهل عشاق الزمن والدنيا وأحبابها، الرافضين لما يسمونه تسامحًا بثقافة الموت. بناءً عليه، فإن إبراز عنصر المحبة والرحمة هو تأكيد على حب الحياة هنا…

 

إلا أن ما أود بيانه، أن الدنيا هنا، هي دومًا اللحظة التي ودّعت ما قبلها، وتستقبل ما تودّع به كل اللحظات الآن، وهنا الخوف والقلق الأكبر. إن الحياة هي بذاتها مخاطرة الأحياء المتتالين جيلًا بعد جيل عبر التدافع بينهم وإظهار الفساد في البر والبحر بما تكسب أيديهم. ولولا عنصر الرجاء الماثل في الموت، ورب الحياة والموت ليئس الناس كلهم جميعًا. إلا أن الأمل والمحبة الفائضة من الرجاء على صفحة الحياة هي الكافلة بالصبر والمثابرة وإكمال الطريق.

 

بمقدار ما نعي معنى الخوف نفهم الرجاء بعمق أكبر، وبمقدار ما نحفظ حتمية الموت نحصن الحياة أكثر، ومشتبه من يعتقد أنه يمكنه فهم الحياة دون فهم الموت، أو فهم الرجاء دون فهم الخوف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، الجزء4،  الصفحة 16.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد